منذ إعادة هيكلة إدارة الدولة في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/تموز 2016، اتبعت تركيا سياسة خارجية شاملة. وأجرت العديد من التغييرات الهامة لزيادة فعالية السياسة الخارجية التركية.
ومع إدخال نظام حكومي جديد هو النظام الرئاسي، تم اعتماد قيادة مدنية قوية تقوم على الفصل بين الأمن الداخلي والخارجي، وبدأت المؤسسات الأمنية مثل القوات المسلحة التركية وجهاز المخابرات الوطني في لعب دور أكثر فاعلية في قضايا السياسة الخارجية. ومن خلال إنشاء بعض مؤسسات الدولة الجديدة التي تتعامل مع قضايا السياسة الخارجية وتحول بعضها الآخر، زاد عدد الفاعلين في السياسة الخارجية.
ومنذ ذلك الحين، بدأت تركيا في اتباع سياسة خارجية فعالة في المجال الأمني نتيجة انسجام رفيع المستوى بين المؤسسات الأمنية ووزارة الخارجية. وعلاوة على ذلك، فإن هذا التناغم الواسع النطاق بين الجهات الفاعلة في السياسة الخارجية قد مكّن تركيا من حشد القوة الصلبة والذكية والناعمة في آنٍ معاً، وهو مؤشر على قدرة تركيا العالية المستوى واستقلاليتها الاستراتيجية. ويعرف كل المراقبين الأتراك والأجانب جيداً أن هذا النهج تحقق بقيادة رجب طيب أردوغان الذي انتخب رئيساً لتركيا للمرة الثالثة على التوالي مؤخراً.
ويتخذ أولئك الذين يدركون هذه التغييرات في تركيا، مواقف مختلفة وفقاً لهذه التطورات الجديدة. وبينما بدأت بعض الدول في الاعتراف بتركيا كفاعل عالمي وقوة إقليمية محترمة، فإن دولاً مثل الدول الغربية التي كانت تحاول الحفاظ على علاقاتها الهرمية مع أنقرة، تقوم اليوم تقويض توجه السياسة الخارجية التركي المستقل.
تدخل الإعلام الغربي
ولخدمة هذا الغرض، حشدت العديد من الدول الغربية بشكل علني وسري مواردها لدعم المعارضة ومنع إعادة انتخاب الرئيس أردوغان. ومضت العديد من وسائل الإعلام الغربية في إصدار المنشورات المناهضة لأردوغان للتأثير على الرأي العام وتغيير نتائج الانتخابات. فعلى سبيل المثال، خصصت إحدى وسائل الإعلام البريطانية الرائدة وهي الإيكونوميست، عدداً خاصاً للانتخابات التركية الأخيرة. واستخدمت عبارات فاحشة مثل " أردوغان يجب أن يرحل" و"أنقذوا الديمقراطية"، ما يقوض التقاليد الديمقراطية التركية التي استمرت 70 عاماً. كما نشرت الكثير من وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية تقارير إخبارية متحيزة مماثلة عن تركيا وأردوغان.
وبالرغم من كل التغطية الإعلامية السلبية والمتحيزة في الغرب، إلا أن الشعب التركي أظهر مرة أخرى نضجه الديمقراطي بمشاركة قياسية في الانتخابات، وبالتالي كشف زيف الغربيين وداعميهم الداخليين، ما شكل ائتلافاً وطنياً يقوض الأضاليل ويُظهر بوضوح أولويات الشعب التركي. وهكذا أعاد الشعب التركي انتخاب أردوغان الذي فاز في جميع الانتخابات التي شارك فيها مسجلاً بذلك رقماً قياسياً. وبات من المؤكد أن تحالف الغرب هذا يتجاهل حقائق البلد، وسيظل محكوماً عليه بالفشل فيما يتعلق بالشأن التركي.
وكما شهدنا في الحملات الانتخابية الأخيرة، يواصل العديد من الغربيين متابعة التطورات في تركيا من خلال المتعاطفين المحليين معهم. ونتيجةً للتضليل على نطاق واسع والتغطية الإعلامية المنحازة، اعتقد معظم الصحفيين والأكاديميين المحليين والأجانب من التحالف المناهض لأردوغان، الذين كانوا يقللون من شأن الشعب التركي منذ عقود، أنهم سيهزمون أردوغان في الانتخابات.
وتصرف العديد من الصحفيين والأكاديميين المشهورين المنفصلين عن واقع البلاد كمتصيدين ومتعاطفين سطحيين مع الغرب، واستمروا في إهانة قيم الشعب التركي خلال الحملة الانتخابية. وتشعر الغالبية العظمى من هذه النخبة التركية ذات الطابع الغربي والعلماني القوي بأنها أقرب إلى تصور الدول الغربية، وتفضل تركيا التي تعتمد على الغرب على تركيا المستقلة. بعبارة أخرى، لا الغرب ولا المتعاطفون معهم في الداخل يريدون من تركيا أن تأخذ زمام المبادرة في السياسة الدولية وتنتهج سياسة خارجية مستقلة.
المصالح الوطنية
لقد لقن الشعب التركي مرة أخرى التحالف الغربي ومن يواليه درساً قاسياً من خلال تحفيز الوعي المتزايد لديه على حماية قيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، المصمم على رفع العلم التركي في السياسة الدولية وتعظيم المصالح الوطنية التركية ضد الهجمات الغربية. ويعرف الشعب التركي جيداً أن الهدف الرئيسي لحكومة أردوغان التي تقاوم الضغط الغربي، هو تأمين مكانة محترمة للدولة التركية.
وفي هذا السياق، نجد أن الرئيس أردوغان والمسؤولين الآخرين من فريقه، مصممون على حماية مصالح تركيا المشتركة والتوافق مع الغرب بقدر متساوٍ مع تعظيم المصالح الوطنية لتركيا وتحقيق الاستقلال الاستراتيجي في السياسة الدولية. وبالرغم من أن هذا يمثل تغييراً في الخطاب السياسي وسلوك السياسة الخارجية، إلا أنه لا يعني انحرافاً تاماً عن الغرب. بل تريد تركيا فقط إعادة تحديد علاقاتها مع الغرب على أساس الحقائق الجديدة بالنسبة لكلا الجانبين. وبعبارة أخرى، تريد أنقرة إقامة نوع جديد من العلاقات على أساس الشراكة المتكافئة، وهو ما ترفضه الدول الغربية عموماً. ويبدو أنه لا يوجد خيار آخر أمام الغرب سوى تعلم السياق الجديد للعلاقات مع تركيا وقبول الواقع الجديد.