تمثل محاولة انقلاب 15 تموز الفاشلة إحدى أهم نقاط التحول في تاريخ تركيا المعاصر. وعلى عكس الانقلابات السابقة كانت جماعة غولن الإرهابية التي طالما لبست زي الحركة المدنية هي الفاعل الرئيسي في تلك المحاولة التي قتل فيها 250 شهيداً وجرح أكثر من 2000 مواطن. كما أصيب العديد من المباني الحكومية، بما في ذلك مبنى البرلمان والرئاسة. لكن ذلك لم يثن الملايين من أبناء الشعب التركي وأولهم الرئيس رجب طيب أردوغان عن الخروج إلى الشوارع في تصدٍ غير مسبوق للانقلابيين العسكريين.
كانت ليلة 15 تموز واحدة من أحلك أيام التاريخ التركي لكنها انتهت بفجر مشرق براق، انتصرت فيه إرادة الشعب على محاولة الانقلابيين المشؤومة. كما منحت هذه المحاولة الفاشلة البلاد فرصةً حقيقيةً لإعادة هيكلة السياسة التركية الداخلية والخارجية.
لقد تمخضت محاولة الانقلاب عن ثلاثة نتائج رئيسية أثرت على السياسة الداخلية التركية. فهي بدايةً أدت إلى إعادة هيكلة الدولة التركية بإنهاء نظام الوصاية الذي كانت البلاد مرتبطةً به. وتم تغيير النظام الإداري إلى نظام رئاسي من أجل ضمان الاستقرار السياسي، ونتيجة لذلك تم تعزيز السلطة السياسية المدنية، الأمر الذي جعل احتمالية حدوث انقلاب عسكري آخر أكثر صعوبة إن لم يكن مستحيلاً إلى جانب السماح لمؤسسات الدولة بالعمل بشكل فاعل.
كما تغيرت نتيجة لهذه المحاولة عقلية مؤسسات الدولة التركية خاصة في مجال الأمن، إذ تم بالفعل "تأميم" هذه المؤسسات وزادت قدرتها على العمل لمصلحة الأمة وعززت قوات الأمن التركية وأجهزة المخابرات أهميتها وبدأت منذ ذلك الحين في تنفيذ عمليات فعالة خارج حدود البلاد. بالإضافة إلى طرد العديد من العناصر التي كانت تعمل مع جهات أجنبية معينة خارج هذه المؤسسات.
ونتيجة للتطورين الأوليين، تراجع تأثير الجهات الأجنبية في الحياة السياسية الداخلية التركية إلى الحدود الدنيا، ولم تعد الجهات الفاعلة الأجنبية تمتلك القوة الكافية لتحقيق أهدافها في الشؤون الداخلية التركية.
على الصعيد الخارجي حققت تركيا نتائج مماثلة في إعادة هيكلة سياستها الخارجية. فمع تخلصها من العناصر الموالية لغولن التي كانت مندسة بين صفوف القوات العسكرية والأمنية، زادت تركيا من قدرتها على تنفيذ العمليات خارج حدودها، وبدأت في مواجهة التحديات والتهديدات الموجهة ضد استقلالها السياسي وسلامة أراضيها بنجاح أكبر، وهي تتخذ حالياً مبادرات فعالة في سياستها الخارجية في كل من سوريا وليبيا. فقد نفذت تركيا أربع عمليات عسكرية في شمال سوريا، وطهرت حدودها من تهديدات الميليشيات الإرهابية، ووقعت اتفاقيتين حازمتين مع الحكومة الليبية عام 2019، وغيرت بشكل كبير ميزان القوى على الأرض لصالح الشرعية الليبية المتمثلة في حكومة فايز السراج.
كما قللت تركيا من اعتمادها على السياسة الخارجية القائمة على الوضع الراهن وفق التسلسل الهرمي، لا سيما فيما يتعلق بالعلاقات مع الغرب، وعززت نهج سياستها الخارجية المتمركز حول أنقرة. وراحت تطالب بعلاقة أفقية مع الغرب تتصف بشكل أساسي بالمساواة وعدم الكيل بمعايير مزدوجة. وتركيا اليوم عازمة على اتباع سياسات خارجية تخدم مصالحها الوطنية حتى لو تعارضت مع مصالح الغرب الذي لم يبد أية مبالاة بمخاوف الأمن القومي التركية.
وكنتيجة مباشرة لهذه السياسات الجديدة، أصبحت تركيا محط نفورٍ وشيطنة من قبل الدول الغربية التي تواصل منذ 2013 الضغط على البلاد واتبعت سياسات معادية لها في معظم الأزمات الإقليمية، خاصة في الشؤون المتعلقة بسوريا وليبيا. كما بدأت بعض الدول الغربية في تقديم دعم علني لجميع المنظمات المناهضة لتركيا بكل الوسائل المتاحة لها. فقد قامت حكومة الولايات المتحدة على سبيل المثال، بإيواء أعضاء بارزين من جماعة غولن الإرهابية، على رأسهم زعيم الجماعة فتح الله غولن بينما تستمر هذه الحكومة بتوفير الدعم المالي والعسكري لتنظيم ي ب ك/بي كا كا الدموي في شمال سوريا.
ومع ذلك، لم تجن الدول الغربية أية مكاسب من ضغطها المتزايد على تركيا التي بدأت رداً على هذا السلوك، بإعطاء الأولوية لعلاقاتها مع الدول غير الغربية. وفي هذا السياق حسّنت تركيا علاقاتها مع روسيا، ووقعت العديد من الاتفاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع موسكو، بما في ذلك شراء منظومة الدفاع الصاروخية إس-400. ويبدو أن الدول الغربية ستخسر المزيد والمزيد مع استمرارها في عزل تركيا. أما المارد التركي العنيد فقد دفعه هذا العزل إلى اتخاذ التدابير اللازمة لتحسين الصناعات الدفاعية في البلاد وتطوير علاقاته مع الدول غير الغربية لتشكيل مبادرات جديدة على الساحة الدولية.
وختاماً، فإن محاولة انقلاب 15 تموز وضعت مستقبل تركيا على حافة الهاوية لكن فشل المحاولة وفّر لأنقرة الوسائل والأسباب لإعادة هيكلة سياساتها الداخلية وشؤونها الخارجية. وعززت تركيا من خلال التدابير المتخذة في أعقاب هذه الأحداث، استقرارها السياسي ومكانتها الإقليمية.