دخلت الأزمة السورية مرحلة جديدة بعد التدخل التركي. وقد أثبتت تركيا بالفعل عزمها على عدم التفاوض على دور أي من الجهات الفاعلة التي تشكل تهديداً حيوياً للأمن القومي التركي ووحدة الأراضي. وفي هذا الصدد، نفذت تركيا عمليتين عسكريتين عبر الحدود، الأولى ضد داعش، والثانية ضد "ب ي د" وجناحه المسلح ميليشيا "ي ب ك" الإرهابية. وتمكنت تركيا من تغيير ميزان القوى في سوريا من خلال دعم المعارضة ومنع تواجد "ي ب ك" و "ب ي د" في المناطق القريبة من الحدود التركية السورية.
علاوة على ذلك، كانت تركيا تتفاوض حول مستقبل الأزمة السورية مع كل من الولايات المتحدة وروسيا. وباعتبارها الدولة الوحيدة التي تقدم الدعم لقوى المعارضة الرئيسية، نجحت تركيا في إبقاء المعارضة في اللعبة، رغم أن الولايات المتحدة وروسيا لا تدعمانها.
من ناحية، تقدم روسيا الدعم الكامل لنظام بشار الأسد، العاجز عن الوقوف بمفرده. ومن ناحية أخرى، تدعم الحكومة الأمريكية تدعم "ب ي د/بي كا كا" الإرهابي على حساب تركيا، حليفتها في حلف شمال الأطلسي. ومع ذلك، إذا كان على أنقرة ترجيح جانب على الآخر، فمن الأسهل التعاون مع الكرملين بدلاً من البيت الأبيض.
رغم أن تركيا كانت ولا تزال تطالب نظام الأسد بتسليم السلطة للشعب السوري، فإن كل من تركيا ونظام الأسد يريدان حماية وحدة أراضي سوريا ضد قوى انفصالية مثل "ي ب ك" وداعش. كذلك، فإن كلاً من نظام الأسد و"ي ب ك" أو داعش، يشكلان تهديدًا لتركيا. ومع ذلك، فإن التهديدات، التي تمثلها ميليشيا "ي ب ك" أو داعش عند مقارنتها بنظام الأسد، على الأمن القومي التركي، هي أكبر وأخطر. ولهذا السبب، تستطيع تركيا التعاون مع روسيا بسهولة أكبر من الولايات المتحدة.
مواقف اللاعبين الرئيسيين على الأرض معقدة للغاية. لقد وصلت الأطراف الأربعة الرئيسية، أي الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران، إلى طريق مسدود، إذ لم يتمكن أي منهما من التوصل إلى اتفاق. ورغم أن كلاً من روسيا وإيران تدعمان نظام الأسد، إلا أنهما لا يتطلعان بنفس المنظور إلى مستقبل سوريا. ومن بين أمور أخرى، يمكننا ذكر هذا المثال، في الوقت الذي تحرص فيه روسيا على عدم اتخاذ أي خطوات معادية لإسرائيل في سوريا، لا تعترف إيران بإسرائيل بل تطلق عليها اسم "الآخر" الإقليمي. ووفقا للأخبار، هناك صراع بين الميليشيا الموالية لروسيا والمؤيدة لإيران على الأرض السورية. وباختصار، يستخدم الطرفان نظام الأسد لتطبيق منظومة كل منهما الإقليمية.
كذلك الولايات المتحدة التي تدعم "ب ي د" و"ي ب ك" وتحاول الحد من تأثير نظام الأسد، فإنها لا تريد أن تقوم إيران وروسيا بتوسيع قوتهما في سوريا.
ومع ذلك، تتفاوض الولايات المتحدة حول مستقبل البلاد مع روسيا، الأمر الذي يمنع وجود تمثيل إيراني على طاولة المفاوضات ويحد من تأثير تركيا.
اليوم، هناك العديد من النقاط الساخنة في الأزمة التي تتنافس وتتنازع فيها الجهات الفاعلة ذات الصلة. ففي إدلب، تركيا ما زالت تتفاوض مع روسيا. ويتوقع الجانب الروسي من تركيا القضاء على "هيئة تحرير الشام" في المنطقة، في حين يطالب الجانب التركي بمزيد من الوقت لإبعاد مقاتلي ذلك التنظيم. وقد واجهت تركيا العديد من الصعوبات أثناء عملها على تطهير المنطقة من الجماعات المتطرفة لأن مستقبل هذه الجماعات المتطرفة يمثل مشكلة كبيرة لجميع الأطراف.
نقطة ساخنة أخرى هي منطقة منبج، في غرب الفرات. لقد وقعت تركيا والولايات المتحدة مذكرة تفاهم لتطهير المنطقة من ميليشيا "ي ب ك" الإرهابي. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة لم تقم بالدور المنوط بها من المعاهدة. ورغم وعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، راحت واشنطن تماطل وأرجأت تنفيذ الالتزامات. وبالنظر إلى اللامبالاة الأمريكية تجاه مخاوف تركيا الأمنية، يبدو أن واشنطن قد أعادت تحديد وجهة نظرها إلى تركيا. تركيا ستتحرك في منبج عاجلاً أم آجلاً، رغم المعارضة الأمريكية. وقد تحتاج الولايات المتحدة إلى الامتثال لقرار تركيا في التدخل في المنطقة من أجل حماية وكيلها في شرق نهر الفرات، وهي نقطة ساخنة أخرى في الأزمة.
تركيا مصممة على التدخل شرق نهر الفرات وإنشاء منطقة آمنة، وإرسال جزء من اللاجئين السوريين الذين يعيشون على أراضيها إليها. ومع ذلك، ترغب الولايات المتحدة في إنشاء منطقة عازلة، حيث يبقى عناصر "ي ب ك" الإرهابيين، بأمان.
وفي هذا السياق، قد تفضل الولايات المتحدة أن يقوم نظام الأسد بالسيطرة على المنطقة، باعتبار أن لديه علاقات ودية مع "ب ي د" و"ي ب ك". من ناحية أخرى، تحرص كل من روسيا وإيران على عدم تفويض "ي ب ك" بأي سلطة. في نهاية المطاف، يتعين على تركيا أن تعتمد على مواردها الخاصة وأن تواجه تهديدات "ي ب ك" الإرهابي أو غيره من الجهات الفاعلة. ستتحرك تركيا قدماً لحماية مصالحها في سوريا، من الدفاع عن أمنها القومي ضد "ي ب ك" الإرهابي وتخفيف عبء اللاجئين الذين يعيشون في تركيا.