كثرت التساؤلات المتعلقة بالصورة العالمية للولايات المتحدة وسياستها الخارجية خلال السنوات القليلة الماضية. وتشير استطلاعات الرأي التي أجريت حول العالم، إلى مشكلة تدهور مصداقية القوة الفعلية للولايات المتحدة، نظراً للتردد المستمر الذي تبديه في بعض القضايا.
وتعتبر غالبية الآراء أن الولايات المتحدة أصبحت قوة عظمى تقوم فقط بإصدار بيانات خطابية جريئة، ولكنها تفشل في اتخاذ إجراءات حقيقية. وتأتي هذه البيانات الخطابية التي يصدرها صانعو السياسة الخارجية الأمريكية هذه الأيام، على شكل تعبيرات عن "القلق". وفي الوقت الذي يتطلع فيه المجتمع الدولي إلى المواقف الفاعلة التي من المفترض أن تتخذها الولايات المتحدة بشأن الأحداث الدولية المتوالية، تقوم هذه القوة العظمى بإبداء "قلقها واهتمامها" بهذه الأحداث فقط.
في بداية اتخاذها هذا النهج، بدا من الصعب التنبؤ بخطوات ما بعد "القلق" التي ستتخذها الولايات المتحدة إزاء قضية معينة. لكن التفسير الذي اتضح لتعبير "القلق" كان مجرد إنذار أو تحذير أو نداء. وتساءل الكثيرون ما إذا كان هذا "القلق" جزء من سياسة أوسع قد تؤدي أو لا تؤدي إلى اتخاذ أي إجراء.
لكن الاستمرار في استخدام المصطلح وتكراره المتزايد، جعل الكثيرين يستنتجون أنه لا يمثل جزء من استراتيجية أكبر. إنما يمثل بدلاً من ذلك تصديقاً على نهج "رفع اليد" والتراجع الذي اختارته الولايات المتحدة لسياستها الخارجية فيما يتعلق بالأحداث العالمية. وهكذا صار تفسير "القلق"، في ظل عدم وجود سياسة واستراتيجية واضحة تجاه الأزمات الدولية، يعني تأجيل العمل، أو أحياناً ذريعةً لعدم اتخاذ أي إجراء على الإطلاق.
لقد أطلقت الولايات المتحدة العديد من تعبيرات "القلق" حيال الصراعات في اليمن وسوريا خلال السنوات القليلة الماضية. وبدت تلك التعبيرات خصوصاً المتعلقة بسوريا خلال فترة معينة، تنذر بسياسة أمريكية شديدة لا تتهاون أبداً. حتى أن الكثير من حلفاء أمريكا -بمن فيهم أعضاء المعارضة السورية- اعتبر هذه التعبيرات خطوة هامة نحو سياسة أمريكية أكثر تشدداً تجاه ما يجري في سوريا. ومع ذلك، الذي حدث في نهاية المطاف، أن تعبيرات "القلق" توالت وتبع أحدها الآخر، دون حدوث سوى تغيير طفيف في التطورات على الأرض.
في الواقع، يكشف البحث عن تعبير "القلق" أن صنّاع السياسة والمسؤولين الأمريكيين قد استخدموه في مئات من التصريحات التي صدرت خلال السنوات القليلة الماضية.
وإلى الآن وكما رأينا في الأيام القليلة الماضية، صدرت من المسؤولين الأمريكيين تصريحات مماثلة تعبر عن "القلق"، جاءت هذه المرة حول ليبيا.
فبعد عدة أيام من صمت الولايات المتحدة وتقاعسها عن اتخاذ أية خطوة عملية، أدلى مسؤول رفيع المستوى من الإدارة الأمريكية يوم السبت، بتصريح حول الصراع في ليبيا. وأعرب بيان صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية عن "قلق الولايات المتحدة" بشأن التطورات في ليبيا. وبعد التعبير عن "القلق"، ذكر البيان أيضاً أن الولايات المتحدة "تشجب الهجمات على المدنيين الأبرياء وتدعو جميع الأطراف إلى الامتناع عن التصعيد".
في نفس اليوم، ذكرت وكالة "رويترز" أن مسؤولاً كبيراً بوزارة الخارجية الأمريكية قال: "الولايات المتحدة قلقة للغاية" من اشتداد حدة الصراع في ليبيا، مع ارتفاع عدد المرتزقة الروس الذين يدعمون قوات أمير الحرب "خليفة حفتر" على الأرض، وخطورة أن يتحول إلى صراع أكثر دموية.
في الواقع، تحمل تصريحات هذا المسؤول رسائل معينة. أولها تأكيد الولايات المتحدة على الاعتراف بحكومة الوفاق الوطني في ليبيا المعترف بها في الأمم المتحدة. والرسالة الثانية هي أن "الولايات المتحدة تشعر بقلق بالغ إزاء التصعيد العسكري". وأيضاً، أن هذا القلق موجه ضد المساعدات العسكرية الروسية لحفتر، التي تعتبرها واشنطن "أمراً سيئاً" على وجه الخصوص. مع ذلك، فالخطوة التالية هي بالضبط ما يربك العالم فيما يتعلق بدور الولايات المتحدة في السياسة العالمية، حيث أكد المسؤول نفسه، بعد الإدلاء بكل هذه التصريحات، أن واشنطن لن تنحاز إلى أي جانب في الصراع في ليبيا.
وهكذا نجد أن تفسير بيان "القلق" الأمريكي، يصبح مرة أخرى لعبة تخمينٍ لمراقبي السياسة في الشرق الأوسط. ولا يزال عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية، يربكان العالم بأسره.
لعل كلمة "قلق" الرنانة ستستمر في وصف تصورات السياسة الأمريكية في السنوات القادمة. وقد تغلب على الولايات المتحدة تسمية: القوة العظمى "القلقة"، بعد فقدان سمعتها كقوة عظمى أساسية.