في الوقت الحاضر، من الواضح أننا نواجه نظاماً عالمياً وحشياً.
في الواقع، يبدو أن الإنسانية "الغربية" تقف كفلسفة تهدف إلى حماية حياة الإنسان، وإعلاء كرامته، وإعلاء القيم الإنسانية، والدفاع عن الحقوق الأساسية مثل الحق في الحياة، وحرية التعبير، وكل ما يتعلق برفاهية الأفراد.
لكننا جميعاً على دراية بالتجارب التاريخية للأفارقة وشعوب الشرق الأقصى والأمم صاحبة الأراضي المستعمرة خلال الحقبة الاستعمارية. وندرك أيضاً أنه خلال حركات الاستقلال، انخرطت دول في جميع أنحاء العالم، بدءاً من الجزائر إلى الصين، في معارك من أجل الحكم الذاتي ضد القوى البريطانية والفرنسية وغيرها من القوى الغربية، ما أدى إلى خسارة مئات الملايين من الأرواح في هذه الصراعات. وبالرغم من ذلك، فقد أظهرت الحضارة الغربية نفسها ببراعة باعتبارها النموذج السائد، حارسة الطبيعة والحيوانات والبشر والكرامة الإنسانية.
وفي أعقاب الإبادة الجماعية والمذابح التي تعرض لها الشعب اليهودي خلال الحرب العالمية الثانية، بُذلت جهود متضافرة لمنع تكرار مثل هذه الفظائع ضد أي دولةٍ على مستوى العالم. وتشير العديد من المؤسسات مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الأوروبية ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، إلى الالتزام بكبح تصرفات الدول أو المنظمات التي قد تخرج عن نطاق السيطرة.
آمال متبددة ومعايير مزدوجة
وحتى بداية حرب غزة، كان وجود هذه المؤسسات على مستوى العالم مطمئناً للأشخاص الذين ليسوا على دراية جيدة بالعلوم السياسية والعلاقات الدولية. ومن ناحية أخرى، تعرضت الصراعات والانتهاكات في المجتمعات غير الغربية لانتقاداتٍ شديدة من قبل الدول الغربية.
وفي السنوات العشرين الماضية، كانت حرب أوكرانيا هي الحالة الوحيدة التي تورط فيها الغرب بشكل مباشر كرد فعل على هجوم روسيا. وقبل الأزمة الأوكرانية، كانت الولايات المتحدة أو الدول الغربية هي التي تبادر بضربات استباقية واحتلال الدول الأخرى، مثل العراق واليمن وأفغانستان.
وخلال الصراع في أوكرانيا، أصبحت أوروبا متورطة بشكل مباشر، ووجهت اتهامات ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية وقتل الرضع. وحاول الغرب قطع الوارد الثقافي الروسي عن كافة الأراضي والبلدان الأوروبية. وكان من المثير للسخرية أن تُحظر مؤلفات الكتّاب الروس، وأن يُمنع بعض الفنانين الروس من الأداء في أوروبا.
وعلى العكس من ذلك، مع تكشف أحداث حرب غزة ومشابهة سلوك إسرائيل لسلوك منظمة إرهابية أكثر من سلوك الدولة، ارتفعت التوقعات العامة. وتوقع أولئك الذين عانوا من المذابح وشهدوا قصف المستشفيات ووجدوا أنفسهم مهجّرين في الشوارع، استجابةً إنسانيةً لمحنتهم.
دولة أم نقابة جرائم
وكما هو الحال مع الصمت الذي يعقب مسعى منظمة مافيا إرهابية إلى القضاء على سكان بلدة صغيرة، لا تبدو أي دولة خاضعة لسيطرة الاحتكار اليهودي لوسائل الإعلام وتمويله، على استعداد للتحدث علناً ضد المذابح التي ترتكبها إسرائيل بسبب المخاوف السائدة.
لقد أكدت إسرائيل لجنودها ولقنتهم عقيدة أنهم يستطيعون معاملة الفلسطينيين بأي طريقة غير قانونية، وأنهم لن يتم استجوابهم عن أعمالهم اللاإنسانية والإجرامية. وهذا يعني ما يلي: "يمكنك قتل أي مدني دون سؤال. ويمكنك قصف مستشفى أو قطع قابس الكهرباء لترك الأطفال في الحاضنات يموتون، أو يمكنك مسح المعتقلين بشكل جماعي في المستشفيات".
وقد نفذ الإسرائيليون عملياتٍ ضد الضباط الذين خدموا في المعسكرات النازية وكانوا جزءاً من قيادات أدولف هتلر، وكان هدف تلك العمليات توثيق الفظائع التي ارتكبت خلال تلك الفترة، كما بُذلت جهود مكثفة لتعقب النازيين والقبض عليهم في جميع أنحاء العالم.
"قيد التسجيل" مشروع من أجل الكرامة الإنسانية
انطلقت في مدنية في إسطنبول مؤخراً مبادرة مشروع "قيد التسجيل"، الذي تقوم فيه مجموعات عديدة مثل الأكاديميين ورسامي الكاريكاتير والمقيمين الفنيين والمحامين وفرق ممن درسوا خرائط فلسطين وتحققوا من مراكز التضليل وما إلى ذلك، "بتسجيل" المجازر التي يرتكبها الإسرائيليون في فلسطين بفنّهم أو خبراتهم الخاصة.
وحضر الحدث الذي بدأ في مكتبة رامي، باستضافة رئيس بلدية إيسنلر محمد توفيق كوكجو، وزير العدل يلماز تونج . وتساهم في البرنامج وكالة الأناضول واتحاد بلديات مرمرة واتحاد الحقوقيين في تركيا والعديد من المشاركين الآخرين.
ويعمل رسام الكاريكاتير حسن كاجان كممثل لمكتب الرسوم المتحركة، في حين أن أمين البرنامج الرسام أوغور بولات، يدعم المشروع بقطعة فنية ذات أهمية كبيرة. ومن المعترف به على نطاق واسع أن عمل بيكاسو الشهير "غيرنيكا"، الذي يصور قصف مدينة غيرنيكا في إسبانيا من قبل قاذفات القنابل الألمانية النازية، يمثل لوحة احتجاجية قوية في سجلات تاريخ الفن.
وسيقوم أوغور بولات بإعادة إنشاء لوحة بيكاسو، مع عناصر توثق جميع المذابح والفظائع التي ارتكبتها إسرائيل ضد فلسطين. وستبدو اللوحة ظاهرياً مثل لوحة بيكاسو غيرنيكا، ولكن إذا ما تعمقنا أكثر، سنرى تجسيد كافة ممارسات إسرائيل غير القانونية من عام 1948 إلى عام 2023.
وبالإضافة إلى العديد من الفعاليات التي أقيمت في مكتبة رامي ضمن إطار المشروع، شارك في البرنامج رسام الكاريكاتير الفلسطيني المشهور عالمياً الدكتور علاء اللقطة الذي التقى برسامي الكاريكاتير في تركيا وتبرع ببعض أعماله لنشرها في برنامج "قيد التسجيل".
وأوضح الدكتور اللقطة أن فن الكاريكاتير ليس له لغة أو عرق أو لون أو ثقافة، وأنه فن يتحدث للجميع، ويعطي رسالة للجميع، ويمكن أن يصل إلى الجميع. ومن ناحية أخرى، عندما سُئل عن التهديدات التي يتلقاها بين الحين والآخر من إسرائيل أثناء إقامته في فلسطين، كان جوابه لافتاً: "كل فلسطيني يعرف أنه في يوم من الأيام سيستشهد، لكنه لا يعرف على وجه الدقة الزمان أو المكان، لذلك لا نهتم كثيراً بمثل هذه التهديدات".
وأعرب عن رغبةٍ صادقةٍ للتعاون مع الفنانين في جميع أنحاء العالم قائلاً: "دعونا نتعاون، دعونا نسعى لتأمين حرية المسجد الأقصى، ونتحد مع الفنانين في جميع أنحاء العالم لرسم صورة لوجه حنظلة المسالم، في مواجهة العالم". في إشارة إلى شخصية الطفل ذو العشرة أعوام "حنظلة" الكاريكاتورية، التي ترمز للقضية الفلسطينية.
والواقع أن مشروع "قيد التسجيل" يتجاوز كونه احتجاجاً قصيراً. إنه مبادرة تستغرق شهراً لتوثيق معلومات شاملة. وسيتم أرشفة جميع البيانات المجمعة في بوابة محفوظة على المدى الطويل وذلك لهدف واضح هو أنه عندما يسود القضاء وتتمكن آلية العدالة ويحين الوقت لمحاسبة المسؤولين عن الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل، على غرار ملاحقة النازيين على مستوى العالم، سيتم تعقب هؤلاء الجناة وتقديمهم للمحاكمة كمجرمي حرب، وسيكون ذلك الحدث بمثابة شهادة على كرامة الإنسانية.
واليوم يعتبر الإسرائيليون أنفسهم أقوياء مثل الآلهة اليونانية. ولكن إذا نظرنا إلى التردد السائد في الولايات المتحدة، فإن إسرائيل لن تكون قادرة على هزيمة حماس في هذه العملية. وهي في غضبها ضد حماس، تتصرف كمافيا غير خاضعة للسيطرة وكمنظمة إرهابية، وتقصف على مدار الساعة المباني المدنية والمستشفيات وتقتل الناس وحتى الأطفال، في محاولة للانتقام. ومن المعروف أن الدول تعمل ضمن أطرٍ قانونية، في حين تعمل المنظمات الإرهابية والعصابات الإجرامية على خلق جوٍ من الفوضى.