على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية، سعت القوى الغربية بإصرار إلى إحداث تغيير في الحكومة التركية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، ما زاد على حكومته ضغوطاً إضافية، وبالرغم من هذه المساعي فقد استمرت تركيا في نهج طريق "السلاحف" في السير والتقدم ببطء وصبر.
وأطلقت الصحافة الغربية على انتخابات مايو/ أيار "أهم انتخابات لعام 2023"، وبدأوا في مناقشة الحدث منذ شهور مسلطين الضوء على كل كبيرة وصغيرة في تركيا.
وأصدرت المؤسسات الإعلامية الغربية قبل الانتخابات تهديدات مباشرة بدلاً من التنبؤات والتحليلات المعتادة في كل انتخابات، فصرنا نقرأ بعض العناوين الرئيسية التي مفادها أن الرئيس أردوغان يجب أن يرحل، وأن الفوضى ستعم البلاد في حال فوزه.
كما راح البعض يشبّه أردوغان بالسلاطين العثمانيين السابقين أو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيما أصبح آخرون أكثر عدائية من خلال تهديد المواطنين الأتراك الذين يعيشون في بلدهم إضافةً إلى تهديد شعب تركيا.
وفي الفجر التالي لليلة الانتخابات، ورد في عناوين صحيفة الواشنطن بوست:"واجهت المعارضة التركية، حقائق صعبة بعد الانتخابات"، في حين أن حزب العدالة والتنمية الحاكم بقيادة تحالف الشعب، ترك الانتخابات وراءه منتصراً بأغلبية مريحة في البرلمان، وفاز أردوغان بفارق واضح، لكن نصف بالمائة فقط المفقودة دفعت بالأمر إلى جولة الإعادة بعد أسبوعين، ودفعت بوسائل الإعلام الغربية للدوران حول نفسها.
واعترفت الصحافة الغربية بأن أردوغان توصل إلى النصر وأن تركيا لديها نظام انتخابي شفاف، ووضعت نيوزويك حداً حاسماً لمناقشات الديكتاتورية: "توقفوا عن تسمية أردوغان بالديكتاتور. الدكتاتوريون لا يذهبون إلى دورة انتخابية ثانية! "
وفي هذه الأثناء، قام دارون آجيم أوغلو الاقتصادي الأمريكي من أصل تركي وهو معارض لأردوغان، بتشخيص سبب الإحباط الناجم بشكل أساسي بمساعدة معظم منظمي الاستطلاعات الذين كانت تنبؤاتهم مشوشة، وقال: "اتضح أن الكثيرين منا قللوا مرة أخرى من شأن مهارات أردوغان السياسية وقدرته على قراءة الوضع والسيطرة عليه".
كل العيون على تركيا
عندما كانت التوازنات الجيوسياسية العالمية في حالة فوضى، وكانت العلاقات الجديدة آخذة في الاستقرار، لفت ظهور جمهورية تركيا كقوة إقليمية انتباه جميع دول الشرق والغرب، من الجنوب إلى الشمال، الأمر الذي سبب اتجاه أنظار الجمهور العالمي نحو تركيا مع اقتراب البلاد من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
وبالطبع، كانت هناك أسباب لهذا الاهتمام الشديد بانتخابات تركيا، فبينما كان الناتو في حرب مباشرة مع روسيا لاجتياحها أوكرانيا، أرادت الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وألمانيا منع تركيا من اتباع سياسة خارجية مستقلة ومتعددة الأوجه واستباقية.
ولسوء الحظ، فشل قادة أحزاب المعارضة التركية في تفسير هذه الاستراتيجية الكبرى للقوى الغربية الرائدة، ووقعوا جميعاً في فخ تأييد فكرة أن الحملة الانتخابية التركية والمناقشات المتعلقة بها، مجرد مسألة تتعلق بالسياسة الداخلية.
كما استهانت أحزاب المعارضة بالاستثمارات في البنية التحتية التي قام بها حزب العدالة والتنمية خلال فترة حكمه التي استمرت 20 عاماً، لكن بفضل هذه البنية التحتية، ارتقت أنظمة الصحة والتعليم والنقل والطاقة التركية إلى مستوى البلدان المتقدمة.
وعلاوة على ذلك، اتخذت تركيا مؤخراً خطوة عملاقة إلى الأمام لسد عجز الطاقة لديها باكتشافات الغاز الطبيعي والنفط، وتمكن الناخبون من اختبار قيمة هذا النجاح على الصعيد الشخصي، بالرغم من خطاب أحزاب المعارضة.
ووفقاً للخطاب الذي سلطت المعارضة الضوء عليه خلال الحملة الانتخابية، وبالرغم من أن حزب العدالة والتنمية قد أنجز أشياء عظيمة وأوصل تركيا إلى مستوى الدول المتقدمة في المجالات المذكورة أعلاه، كان الاقتصاد يسير متعثراً وكانت الأمة في حالة سيئة والشعب جائع.
ووفقاً للمعارضة، لم تستطع المشاريع العملاقة مثل الأنفاق والجسور أو السيارة المنتجة محلياً من إخفاء القوة الشرائية الضعيفة في مواجهة ارتفاع التضخم.
الظهور كقوة إقليمية
لم يعكس خطاب أحزاب المعارضة الوضع في تركيا، ففي ختام 20 عاماً من حكم حزب العدالة والتنمية، برزت تركيا كقوة إقليمية تنقل بشكل فعال رسالة مدوية إلى المجتمع العالمي من خلال منظمة الدول التركية التي أعيد تنشيطها.
وأصبحت تركيا منافسة إقليمية لفرنسا في إفريقيا، وتعرض الاستعمار الفرنسي لخطر الطرد، بينما استقرت منطقة البلقان بفضل قوة تركيا، حيث كان الصراع على النفوذ يدور سابقاً بين ألمانيا وتركيا.
وفي غضون ذلك، اتخذت الولايات المتحدة إجراءات لإنشاء دولة ثانية كإسرائيل في سوريا، بمساعدة تنظيم "بي كي كي" الإرهابي، وبدأت في تقويض تركيا حليفها في الناتو، لكن العمليات العسكرية التي نفذتها تركيا قلبت الخطط الأمريكية هناك رأساً على عقب.
وعندما أصبح السفير السابق أونال تشفيكوز مستشاراً لزعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليتشدار أوغلو، وتقلد منصباً بارزاً في الحزب، أرسل رسائل طاعة إلى القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة، ووعد بدعم أرمينيا في أذربيجان، ودعم اليونان في تصعيد التوتر في بحر إيجه.
كما وعد بأن تركيا ستسحب قواتها من قبرص وتعارض روسيا في حرب أوكرانيا ضارباً بعرض الحائط موقف الحياد النشط في الصراع الروسي الأوكراني، حيث كانت تركيا العضو في الناتو تستخدم سلاحها الأساسي المتمثل في إرساء سياسة التوازن في العلاقات الدولية، على مدى تاريخها الممتد لقرون، وكانت السياسة الخارجية المستقلة والمتعددة الأوجه التي تبنتها البلاد خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية، ضرورية لمصالح تركيا الوطنية والدفاع عنها.
وبفضل هذه السياسة الخارجية، قامت تركيا بتأمين منطقتها الاقتصادية الخالصة من خلال توقيع مذكرة تفاهم مع ليبيا حول ترسيم حدود مناطق الاختصاص البحري، وبالتالي نجحت في إنشاء "الوطن الأزرق" في البحر الأبيض المتوسط.
وبفضل القيادة القوية للرئيس أردوغان، أصبح الجمهور التركي على دراية بالتهديدات الإقليمية التي تواجه البلاد، وأدرك أن السياسات الحكيمة والمتسقة المعتمدة خارجياً، إضافةً إلى القفزات التي تحققت في صناعة الدفاع، ضمنت ظهور تركيا كقوة إقليمية.
التلاعب الغربي
في مواجهة الدعاية الدولية ضد تركيا في وسائل الإعلام الغربية الرائدة بناءً على حجج تنظيم "بي كي كي" الإرهابي وجماعة "غولن" الإرهابية، اهتم الناخبون جيداً ببلدهم وبالرئيس أردوغان.
وبينما تعرضت أحزاب المعارضة التي تبنت خطاباً سياسياً غير عقلاني، لهزيمة انتخابية فادحة، أظهر مفكرو المعارضة ووسائل الإعلام التابعة لهم، أنهم لم يكونوا على دراية بالمصالح الوطنية التركية، ولا علم الاجتماع التركي، ولا الحس الجيوسياسي لقيادة الرئيس أردوغان.
لقد انتخب شعب الأناضول، الذي يعطي الأولوية للمصالح الوطنية التركية، الرئيس أردوغان كزعيم لهم كما فعلوا ذلك على الدوام، وبالتالي ضمنوا استقرار البلاد وأمنها من خلال دعمهم الثابت والمستمر.