مما لا شك فيه أن التوصل إلى اتفاق فوري على مسودة دستور وإجراء انتخابات حرة في سوريا، من شأنه إعادة البلاد إلى الشعب السوري. لكن زعماء المعارضة أشاروا إلى أنه "لم يتم التوصل إلى اتفاقات" حول مسودة مراجعة المواد الدستورية خلال المحادثات في جنيف منذ ما يقرب من عام، بالرغم من أن جميع السوريين يرغبون باستئناف تلك المحادثات وإعداد مسودة في أقرب وقت ممكن.
ومع تصاعد ضغط تركيا على روسيا لتشجيع نظام بشار الأسد على العودة إلى جنيف، انطلقت في اعزاز السورية احتجاجات ضد أنقرة الأسبوع الماضي؟ فمن هم المحتجون وما هي أهدافهم؟
ومن أجل الإجابة على هذا السؤال بشكل صحيح لا بد من مراجعة موجزة للأحداث التي وقعت في سوريا على مدى السنوات العشر الماضية.
بعد بدء الاحتجاجات ضد نظام الأسد عام 2011 ازداد اهتمام تركيا بسوريا، وسرعان ما تصاعدت المظاهرات السلمية ضد نظام الديكتاتور القمعي إلى حرب شاملة بين السلطة السورية المدعومة من روسيا وإيران، والجماعات المناهضة للحكومة والمدعومة من تركيا والسعودية وغيرها في المنطقة.
ولم يتردد الأسد في قصف المدن واستخدم والبلدات منذ الأيام الأولى للصراع البراميل المتفجرة المليئة بالغازات السامة في 93 هجوماً. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أسقط نظام الأسد 81.916 برميلاً متفجراً، ما أدى إلى مقتل 11.087 مدنياً بينهم 1.821 طفلاً و 1.780 امرأة. وكانت المحافظات الأكثر استهدافاً هي دمشق وحلب ودرعا وإدلب.
ولا يعرف أحد بالضبط كيف حدث ذلك، ولكن في الأيام الأولى من الاضطرابات أضيفت 3 عناصر دخيلة إلى الصراع، وهي الولايات المتحدة، وتنظيم القاعدة الإرهابي من أفغانستان والذي صار يعمل الآن تحت اسم داعش، وإرهابيو بي كي كي الذين يعملون من الأراضي التركية والعراقية.
وبالرغم من وجود الجماعات الإسلامية المتطرفة وكذلك الأكراد العرقيين في سوريا، إلا أن أياً منهما لم يكن مستعداً عسكرياً مع استيائهم من نظام الأسد، وعندما حاول عبد الله أوجلان الدموي المشؤوم التسلل إلى سوريا، لم يسمح الأكراد السوريون لتنظيم بي كي كي بالعمل على الأراضي السورية. وتم تصدير تطرف الجماعات السنية في أفغانستان وباكستان تحت اسم القاعدة بعد أن قامت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بنشر جيش المجاهدين الإسلاميين ضد القوات السوفيتية المحتلة في أفغانستان في أواخر الثمانينيات، إلى منطقة الشرق الأوسط بأكملها. ومع ذلك، فإن نظام الأسد لم يسمح لهم أبداً بترسيخ جذورهم، فكيف قاموا باحتلال ثلث البلاد في ثلاثة أشهر قصيرة؟!
ولا يعرف أحد حتى يومنا هذا كيف جاء كل هذا العدد من إرهابيي داعش مع مدفعيتهم ومعدات حفر النفط وشاحنات الصهاريج وأثاث المكاتب إلى أرض سوريا. مع العلم أن روسيا هي الدولة الوحيدة المتحالفة مع سوريا والتي بنت القواعد الجوية السورية وقدمت أنظمة دفاعية وزودت البلاد برادارات الدفاع الجوي إس 300 وإس-400. ولكن نقل الأسلحة والمعدات التي قدمتها طالبان إلى المحافظات السورية تم بطريقة ما، وكانت العلاقات العامة جاهزة للعمل فوراً. وكلنا يتذكر مقاطع الفيديو التي تظهر قطع رؤوس مقاتلين شيعة موالين للحكومة في سوريا على يد القاعدة!
ظلت سوريا لعدة قرون مثلها مثل العراق وتركيا، دولة يتعايش فيها الإسلام الشيعي والسني بسلام قبل أن يشحذ فيها إرهابيو القاعدة الانقسامات الطائفية بطريقة تضطر الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى "التدخل لمنع الناس من إراقة دماء إخوتهم" ما جعل العنصر الثالث الدخيل على المسرح وهو تنظيمي بي ي دي وواي بي جي يظهران عند تلك النقطة بالتحديد مع الأخذ بعين الاعتبار أن كلا التنظيمين الإرهابيين مرتبطين بتنظيم بي كي كي الدموي، وقد أطلق عليهما الجنرال الأمريكي ريموند توماس رئيس قيادة العمليات الخاصة، اسم قوات سوريا الديمقراطية عام 2015 في محاولة "لتغيير العلامة التجارية" وسط خطط للتحالف مع العرب السوريين في سوريا.
وبذلك سرقت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة المطالب المشروعة للمعارضة الديمقراطية السورية وخلقت تصوراً بأن السلطة السورية تقاتل إرهابيي القاعدة، وأن الدول الغربية تساعد الشعب السوري من خلال قوات سوريا الديمقراطية التي قدمتها على أنها مدعومة من الولايات المتحدة بصفتها "جنود على الأرض" في معركتها ضد الإرهاب!
وسط كل هذه الفوضى، كانت دولة واحدة وقائدها يساعدان الشعب السوري على التعبير عن مطالبه المشروعة والديمقراطية. ولم تعمل تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان فقط كصوت للشعب السوري، ولكنهم فتحوا ذراعيهم أيضاً لأولئك الفارين من قنابل الأسد وفؤوس القاعدة وهمجية القتل التي قام بها تنظيم بي كي كي. ولجأ 5 ملايين سوري إلى تركيا بينما لجأ 4 ملايين آخرين إلى الأردن.
ولم تشارك الولايات المتحدة وتحالفها المزعوم في أي عمليات برية ضد القاعدة، بل أناطوا مهمة محاربة الإرهاب بجماعة إرهابية أخرى! واستقبلت وحدات بي واي دي وميليشيات واي بي جي/بي كي كي مئات الشاحنات المحملة بالأسلحة والذخيرة والمعدات العسكرية لمحاربة داعش. وذكر تقرير المفتش العام في البنتاغون الذي صدر قبل عامين أن قوة المهام المشتركة للعمليات الخاصة وأفراد عملية العزم الصلب لم يحتفظوا بقوائم شاملة للمعدات المشتراة لدعم شركائها في القتال ضد داعش في عامي 2017 و 2018. ومع ذلك، اكتشفت قوات الأمن التركية بعض تلك الأسلحة في مخابئ بي كي كي في الجبال العراقية وفي تركيا! وباختصار، كانت تركيا الدولة الوحيدة في الناتو التي تعمل على الأرض لتطهير عناصر القاعدة في مساعيها لتأمين المنطقة الحدودية.
في غضون ذلك، كان نظام الأسد الطائفي المدعوم بشكل فعال من إيران وميليشياتها الشيعية، منشغلاً بإخراج السنة من البلاد. وكانت المعارضة السورية قد اجتمعت تحت مظلة الائتلاف الوطني السوري وشكلت حكومة مؤقتة. وفي اليوم الأخير من عام 2017، اندمج ما لا يقل عن 30 فصيلاً عاملاً تحت راية الحكومة السورية المؤقتة ضمن جماعة مسلحة موحدة بعد 4 أشهر من الاستعدادات. وأعلن وزير الدفاع في الحكومة المؤقتة جواد أبو حطب، عن تشكيل الجيش الوطني السوري بعد لقائه قادة الثوار في بلدة اعزاز. وساعد إنشاء تركيا منطقةً آمنةً في الشمال السوري، الجيش الوطني السوري على إنشاء جيش سوري يتبع له الآن قوة شرطة خاصة به، ولا تزال المنطقة الخاضعة لسيطرته تواصل التوسع.
وتعترف الأمم المتحدة الآن بالمعارضة الديمقراطية بينما أعلن أمينها العام أنطونيو غوتيريش في أكتوبر/تشرين الأول 2018 تعيين النرويجي بيدرسن مبعوثاً خاصاً له إلى سوريا. ونظم المبعوث الخاص جولات اجتماعات شاركت فيها اللجنة الدستورية السورية بحثاً عن حلٍ للحرب الدائرة في البلاد. واجتمع أعضاء "المجموعة الصغيرة" المسؤولة عن وضع الدستور، والمكونة من 15 ممثلاً عن نظام الأسد، مع المنظمات غير الحكومية والمعارضة السورية عدة مرات. حتى أنه كان هناك انفراج خلال اجتماعات الجولة السادسة في جنيف عندما جلس الرئيس المشارك لوفد نظام الأسد أحمد الكزبري، لأول مرة مع الرئيس المشارك للمعارضة هادي البحرة. لكن في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعرب بيدرسن عن "خيبة أمل كبيرة" بعد فشل الجولة السادسة وانتقد نظام الأسد بالاسم لأول مرة.
وطرح أردوغان قضية تباطؤ الأسد في اللجنة الدستورية السورية في محادثاته مع الزعيم الروسي فلاديمير بوتين. وفي وقت لاحق، قال أردوغان إن محادثاته مع بوتين المتعلقة بسوريا ستخفف التوترات في المنطقة.
علاوة على ذلك، أعلن الزعيمان في بيانهما المشترك أنهما ركزا على التطورات الأخيرة في سوريا وشددا على الأهمية التي يعلقانها على دفع العملية السياسية لتحقيق حل دائم في البلاد. وبعبارة أخرى، اتفق بوتين مع أردوغان على أن الأسد هو من يخرب محادثات السلام وأن عملية جنيف يجب أن تستمر.
كما أكد وزير الخارجية مولود تشاوش أوغلو على الحاجة إلى استئناف هذه المحادثات قائلاً إن دول الاتحاد الأوروبي مترددة في تقديم المساعدة في إعادة بناء الدولة التي مزقتها الحرب دون وقف إطلاق النار وانتشار السلام. وقال تشاوش أوغلو مخاطباً الصحفيين في اليوم الأخير من مؤتمر السفراء السنوي لوزارة الخارجية في أنقرة، إن تركيا تبذل قصارى جهدها لتحقيق وقف إطلاق النار في سوريا. وطُرح موضوع إعلان وقف إطلاق النار وصياغة دستور جديد في محادثات أردوغان مع جميع القادة. كذلك أعلن أردوغان قبل 6 سنوات، في خطاب ألقاه بمناسبة عيد الأضحى أن "سوريا ملك للسوريين" وليست ملكاً لإرهابيي بي كي كي والدول الداعمة لهم. وأضاف في ذلك الخطاب إن النظام والمنظمات الإرهابية ذبحت ما يقرب من 600 ألف شخص معلناً أن نظام الأسد شريك في إراقة الدماء.
وبالعودة إلى السؤال المطروح في البداية: من هم المحتجون الذين تظاهروا الأسبوع الماضي في اعزاز ضد تركيا التي تضغط على روسيا لتشجيع نظام الأسد على العودة إلى جنيف وبدء المناقشات مع ممثلي المعارضة؟
والجواب باختصار، أن قادة العصابة والمحرضين على هذا الفعل الشنيع بالتأكيد ليسوا سوريين! وقد صرح سيف أبو بكر قائد فصيل "الحمزة" العامل في الجيش الوطني السوري، إن الاحتجاج كان عملاً استفزازياً حرض عليه أولئك الذين يعارضون العمليات العسكرية المقبلة التي تعتزم تركيا القيام بها قريباً والتي تهدف إلى توسيع المنطقة الآمنة لقوات المعارضة الديمقراطية السورية. وتبين بالفعل أن المعتقلين بعد المظاهرة، هم أفراد من ميليشيا بي واي دي.
وفي الختام يتضح أن المنطقة الآمنة كلما كانت أكبر كان وضع المعارضة السورية أفضل، وكلما كانت المعارضة متجذرة بشكل أفضل في البلاد كلما أسرع نظام الأسد في العودة إلى جنيف، وهي الطريقة الأضمن لإعادة سوريا إلى الشعب السوري.