عندما بدأ جميع كوادر الأمن القومي والدبلوماسيين الأمريكيين ينتحبون من أن روسيا ستغزو أوكرانيا، هل كان هذا مجرد توقع مبني على معلومات استخباراتية دولية أم أنها خطوة تهدف إلى إيذاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟
وكيف عرف الجانب الأمريكي أن زعيماً مثل بوتين الذي يدير أكبر دولة في العالم، سوف يستسلم لخوفه من أن الغرب في حالة استنفار للإيقاع بروسيا؟ بل كيف يمكن لورثة أكبر شبكة تجسس سوفيتية ألا يعلموا أن أشخاصاً وصفوهم بالنازيين الجدد قد تم تجهيزهم حتى النخاع بأنظمة دفاع جوي محمولة؟ وعلى العكس من ذلك، كيف يمكن للروس أن يعرفوا أن أعضاء الناتو الأوروبيين لن يساعدوا بصدق في إنعاش الحلف من "الموت الدماغي"؟
والحقيقة أن الأمر لا يقتصر على أن الغاز الطبيعي الأمريكي المكلف للغاية يمكن أن يحل محل مصادر الطاقة الروسية مع واقعية هذا الجانب. لكن الولايات المتحدة تخطط بشكل عام لتقديم "الحل النهائي" للمشكلة الروسية، والتي كشفت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون في نعيها لمادلين أولبرايت في صحيفة نيويورك تايمز حول الشخص الذي نفذ خطة توسيع الناتو بعد زوال الاتحاد السوفيتي. ففي مقال الوداع لأولبرايت التي شغلت منصب وزيرة الخارجية الأمريكية رقم 64 في عهد الرئيس بيل كلينتون من 1997 إلى 2001 ، كتبت السيدة كلينتون أن خطة أولبرايت ستمحو "جهود روسيا المستمرة منذ قرون للسيطرة على جيرانها" وتخفف من رعب دول الكتلة السوفيتية السابقة التي تدور حول "الانتقام الروسي".
وكانت أولبرايت بين فريق الرئيس كلينتون خلال حملته الرئاسية وساعدت في تشكيل مجلس الأمن القومي الخاص به. ثم عينها كلينتون في منصب سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة عام 1993 وشغلت هذا المنصب حتى عام 1997 عندما أصبحت وزيرة للخارجية. وخدمت أولبرايت بهذه الصفة حتى ترك الرئيس كلينتون منصبه عام 2001. وتتفاخر كاتبة المقال هيلاري كلينتون أن أولبرايت خلال ذلك الوقت لم تضع خطة توسع الناتو فحسب، بل دفعت أيضاً إلى تغيير من شأنه تشكيل نفسية بوتين ذاته عندما خططت لتجاوز الناتو الحد الفاصل بين كونه تحالفاً دفاعياً ليصبح آلة حرب هجومية لأول مرة. وقام الناتو بالفعل باستعراض عضلاته الهجومية في ليبيا في مارس/آذار 2011 عندما بدأ تحالف متعدد الدول بقيادة الناتو تدخلاً عسكرياً رداً على الأحداث التي وقعت خلال الحرب الأهلية الليبية الأولى.
لذلك، كان ينبغي لبوتين أن يعرف أن الناتو ليس إقطاعيته وأنه إذا كان الروس يفاقمون الأمر كما هو الآن في أوكرانيا، فإن الحلف قد بدأ للتو الكشف عن أنيابه. ويبدو أن أوكرانيا لديها أفكار أخرى حول عضوية الناتو.
فهل يمكن لسكان دونباس أن يعيشوا بسعادة بعد إعادة بناء أراضيهم إذا لم تكن هناك قاعدة جوية للناتو أو وجود عسكري له؟ وهل يمكن أن تتمتع شبه جزيرة القرم بمكانة خاصة تستحقها، وبالتالي تذكر بوتين على أنه الشخص الذي أعاد السلام؟
إذا كان بإمكان المستخدمين العاديين لوسائل التواصل الاجتماعي أن يروا أن حملة أوكرانيا ليست سوى الفصل الأول من "النظام العالمي الجديد" الذي أعلنه الرئيس الأمريكي جو بايدن بفخر وادعى قيادته، فلماذا لا يدرك بوتين هذه الخطوة ويفهم أنه مجرد بيدق في لعبة شطرنج كبيرة؟
في الاجتماع الربع سنوي لمجموعة أعمال الطاولة المستديرة في الأسبوع الماضي قال بايدن:"الآن حان الوقت الذي تتغير فيه الأمور. سيكون هناك نظام عالمي جديد وعلينا أن نقوده. وعلينا أن نوحد بقية العالم الحر للقيام بذلك".
وبالطبع تسبب بايدن في إحداث ضجة عالمية باستخدام هذه العبارة لأنها تكشف بوضوح ما سيقع في المستقبل القريب. وعلى العموم لم يجمع بايدن كل المحافظين الجدد والقدامى من اليسار واليمين في البيت الأبيض دون وعيه الكامل لما سيفعل، إذ تشكل هذه الشخصيات مجموعة العمل المتماسكة اللازمة للتخلص من اثنتين من القوى العظمى المرشحة المتنافسة، وهما روسيا الاتحادية والصين. ولم تكن هيلاري تقتبس من الصحفية آن أبلباوم في مقالتها في أولبرايت دون سبب حيث تثني السيدة أبلباوم على أولبرايت بصفتها مهندسة توسع الناتو بالقول:"كان توسع الناتو أنجح جزء في السياسة الخارجية الأمريكية، إن لم يكن الجزء الوحيد الناجح حقاً، خلال الثلاثين عاماً الماضية. وكنا سنخوض هذه المعركة في ألمانيا الشرقية لو لم نقم بذلك".
ويذكر جاكوب هيلبرون في مقالته في صحيفة "الجمهورية الجديدة" بعنوان "عودة المحافظين الجدد" أنه "في لحظات محورية في السياسة الخارجية الأمريكية الحديثة، أعطى المحافظون الجدد شرعية فكرية للسياسات التي ربما بدت في يوم من الأيام غير صحيحة" واصفاً عدداً من المحافظين الجدد، بمن فيهم ديفيد فروم وماكس بوت وآن أبلباوم وجنيفر روبين وبيل كريستول، بأنهم قد حرروا أنفسهم من قيود الحركة وتمكنوا من إعادة اكتشاف أنفسهم كمدافعين محليين عن تغيير النظام. واليوم، بدأنا نفهم سبب تحذير وزير الخارجية الأمريكية توني بلينكن الجميع من أن حكومة الولايات المتحدة لا تسعى لتغيير النظام في روسيا بينما لم يتهمها أحد بذلك.
فهل يتوقع العالم اندلاع ثورات ملونة قريباً؟
إذا فشل السيد بوتين مرة أخرى في قضية أوكرانيا، واستمر بدلاً من استعادة السلام، في المضي في هذا الاحتلال الذي لا يدمر أوكرانيا فحسب، بل أيضاً جيش روسيا وسمعتها، فقد نشهد ثورات ملونة للغاية في روسيا وحولها. وستشكل "السياسات التي بدت في يوم من الأيام متقطعة" ملامح الفصل الثاني من "النظام العالمي الجديد"، بدءاً من قمة الناتو في بروكسل الأسبوع الماضي حيث أصدر القادة تحذيراً شديد اللهجة لبكين بشأن دعمها الخفي لروسيا.
وبعد أن كتبت هيلاري كلينتون أن تحالفات الولايات المتحدة وخاصة مع الديمقراطيات الأخرى "هي رصيد عسكري ودبلوماسي واقتصادي لا يمكن لروسيا ولا الصين أن تضاهيهما" يأمل المرء فقط أن يلاحظ بوتين و شي جين بينغ أنه لا يوجد شيء مثل السلام السيئ في العالم.