أنشأ المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية نظام إدارة عالمي هدفه منع الحروب النووية، ُسمي الأمم المتحدة. وكانت اللجنة الأولى التي أنشأها المؤسسون الرئيسيون هي "اللجنة النووية" حين احتفلت الدول المنتصرة والدول الخاسرة معاً وبكل سرور بتأسيس لجنة حقوق الإنسان عام 1946. وبموجب هذا الإجراء أصبحت الأمم قادرة على حل صراعاتها دون اللجوء إلى الحروب، وبات احترام حقوق المدنيين الأبرياء متفقاً عليه بفضل قانون حقوق الإنسان. وأُقرّ الاقتتال بين الجيوش المسلحة فقط، مع تجنيب غير المقاتلين ويلات الحرب.
واليوم أتساءل عما إذا كان من قُتلوا في محطة القطار في دونيتسك شرق أوكرانيا، قد شعروا بالأمان منذ 24 فبراير/شباط 2022، عندما اجتاح الاتحاد الروسي بلادهم وبدأ تلك الحرب الإجرامية؟ وهل حاول أحد تهدئة أفراد عائلاتهم بالقول إن قانون حقوق الإنسان كفيل بأن يضمن مرورهم الآمن لركوب القطار الذي كان على وشك الانطلاق؟
إن الوثيقة التي سعت إلى إنهاء الخلافات بين الحكومات دون الإضرار بالمدنيين الأبرياء، انتهكها صانعوها بعد نشرها مباشرة. ولم يعمل أحد حساب المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الأهلية الصينية والحرب البريطانية والفرنسية ضد الشيوعيين الفيتناميين، والحرب الأهلية الإيرانية التي حرضت الجيشين الأمريكي والبريطاني ضد الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية. لقد بدأت الدول في انتهاك قانون حقوق الإنسان وبدأت في قتل المدنيين مباشرة بعد عام 1946 منذ الحرب الأهلية اليونانية وتدخل الولايات المتحدة في تمرد الفلبين والانتفاضات الكورية وأخيراً حرب الهند الصينية الأولى بين الاتحاد السوفيتي والصين وألمانيا الشرقية وبولندا وفرنسا، الأمر الذي يجب أن يقنع بريطانيا والولايات المتحدة الإنسانيتين بأن شيئاً لن يتغير وأن الجيوش ستظل تقتل المدنيين الأبرياء في الحروب طالما كان ذلك بمقدورها.
عرف الأوكرانيون والأقلية الروسية في منطقة دونباس وكذلك في شبه جزيرة القرم وحولها أنهم سيدفعون فاتورة صراع دولي آخر بفقدانهم لمنازلهم وحدائقهم وسياراتهم وربما حياتهم. وهذا هو سبب فرار 11 مليون منهم من أوكرانيا. وما من شك أن الملايين من الناس تعلموا، من خلال 285 صراعاً مسلحاً مميزاً منذ عام 1946، أنه لا يوجد شيء اسمه حربٌ تقتصر على الجيوش فقط، وأن الأمم المتحدة في تركيبتها وشكلها الحاليين لا يمكنها مساعدة الحكومات على تحقيق السلام دون اللجوء إلى العنف.
واليوم، وبعد 76 عاماً من اعتماد ميثاق حقوق الإنسان و 75 عاماً على بدء الحرب الباردة، قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في خطاب متلفز أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الأسبوع الماضي إن الدول لا تعتمد على المؤسسات الدولية والقانون الدولي، متسائلاً عن حتمية حل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
ولكن إذا كان قتل الأبرياء مستمراً بعد إقرار قوانين حقوق الإنسان فمتى يتم حماية الأبرياء؟
يبدو أن المؤرخين لم يتفقوا على تاريخ بدء التوترات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وحلفائهم، لكن الفترة المعروفة باسم الحرب الباردة تُعرّف عموماً بأنها انطلقت منذ إعلان مبدأ ترومان الذي يجعل السياسة الخارجية الأمريكية تسعى لاحتواء التوسع السوفيتي، وانتهت بتفكك الاتحاد السوفيتي الذي دام بين 1947-1991. وعلى الرئيس زيلينسكي أن يعلم أن المؤسسات الدولية وقوانينها لا تحمي المدنيين الأبرياء من شرور الحرب، لكن براعة قادتها هي التي تنقذ الناس من الكوارث. ففي العالم الثنائي القطب في عصر الحرب الباردة، تم منع الحرب العالمية الثالثة بسبب الخوف من الدمار المؤكد المتبادل. وافترضت البشرية أن الولايات المتحدة واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية لديهما ما يكفي من الأسلحة النووية لتدمير بعضهما، وإذا حاول أحد الجانبين توجيه الضربة الأولى للجانب الآخر، فسيتم تدميره أيضاً. ومع ذلك حتى السذّج يعرفون أن الدول يمكن تدميرها بواسطة أسلحة غير نووية أيضاً.
وكان على السيد زيلينسكي أن يعتبر من فيتنام وأفغانستان والعراق واليمن ولبنان وسوريا. فعندما انسحبت القوات الأمريكية أو السوفيتية من هذه البلدان، علم العالم بالفظائع التي لحقت بمدنييها، كما نشهد جميعنا الآن في أوكرانيا. وما كان للسياسي البارع منذ البداية أن يسمح بالاحتلال الروسي أصلاً كيلا يصبح بيدقاً في لعبة الشطرنج الكبيرة التي أقامها الغرب لتفكيك الاتحاد الروسي. وكان على رجل الدولة المخضرم أن يعترف بأهمية الحياد مثلما فعلت سويسرا لضمان الأمن الخارجي وتعزيز السلام. وكان ينبغي على أي سياسي متضرر أن يصارع بحنكة ومهارة ضد ضم منطقة دونباس وشبه جزيرة القرم بعيداً عن محاربة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
من ناحية أخرى، يجب على الزعيم الروسي الحكيم أن يعرف أيضاً أن إعادة تصميم خريطة العالم قد تم بالفعل من قبل المحافظين الجدد الذين لم يكتظوا بالبيت الأبيض من أجل لا شيء. وكان على هذا القائد أيضاً أن يعرف أن العضوية الرسمية في الناتو ليست مطلوبة لضمان وجود مخزون من 10 صواريخ مضادة للدبابات مقابل كل دبابة روسية تهاجم بشكل مفاجئ في أوكرانيا.
لقد حان وقت السلام حقاً. ونأمل أن يستطيع شخص ما التحدث بطريقة منطقية مع رؤساء حلف الناتو والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حتى يقتنعوا بأن روسيا لن تتفكك بسهولة وأن ما من جزء منها سيثور ضد حكم الكرملين، وأن يطلب منهم على الأقل، تأجيل خطتهم العالمية في الوقت الحالي. وإلا فلن يتبقى بلد اسمه أوكرانيا لإعادة بنائه بعد انسحاب القوات الروسية.
لقد كان البلدان في 4 أبريل/نيسان أقرب إلى محادثات قمة مما هما عليه اليوم. وبعد مذبحة لا معنى لها في بوتشا والهجوم الصاروخي على محطة القطار في كراماتورسك، والذي أسفر عن مقتل 39 شخصاً على الأقل، تُركت احتمالات السلام تحت رحمة الناتو.
نعم، لقد خذل نظام الأمم المتحدة الشعب الأوكراني. لكنها ليست المرة الأولى. ففي رواندا والبوسنة وسوريا واليمن وميانمار، لم تحمِ الأمم المتحدة ومواثيقها وقوات حفظ السلام التابعة لها أرواح الناس. وفي يوليو/تموز 1995 وبعد الإبادة الجماعية في رواندا مباشرةً، قتل الجنرال الصربي راتكو ملاديتش 8000 رجل وشاب في سريبرينيتشا تحت أعين قوات حفظ السلام الهولندية التابعة للأمم المتحدة. لكن الأمم المتحدة ليست النظام الوحيد الذي يحقق السلام الآن.
قد يجلس زيلينسكي وبوتين على طاولة واحدة ويتحدثان، مدفوعان ببروتوكول مينسك المصمم لمنح المناطق الانفصالية وضعاً خاصاً داخل الدولة الأوكرانية ربما أو باستعداد المسؤولين الأوكرانيين لإعلان أنهم لن ينضموا أبداً إلى الكتلة العسكرية للناتو. كذلك لا ينبغي تشجيع المسؤولين الروس على افتراض أنهم سيتجاوزون الحظر الذي تقوده الولايات المتحدة.
الطرفان بالفعل صارا بحاجة للعودة إلى طاولة السلام.