يمكننا إدراك كيفية تسخير حوار السياسة الخارجية لخدمة المصالح الفردية من خلال تحليل تشكيك أحزاب المعارضة التركية في التطبيع مع الإمارات العربية المتحدة. ويفترض النقاد أن الإيديولوجيا والخطاب يلعبان دوراً محدداً في السياسة الخارجية التركية في ظل حزب العدالة والتنمية الحاكم. لكن الحقيقة هي أن البراغماتية والعقلانية تقفان خلف سعي حزب العدالة والتنمية لتحقيق المصالح الوطنية.
ويعمل صانعو السياسة في الحزب الحاكم على تحقيق المصالح الوطنية من خلال مراعاة توازن القوى والتفضيلات المتغيرة باستمرار لأصحاب المصلحة المعنيين. وبشكل عام، فإن العداء والمنافسة والتعاون في الساحة الدولية متجذرة في المصالح الوطنية، ويتم تحديدها بشكل مرن، ما يعني أن الخطاب أصبح أداة يستخدمها المرء للحصول على ما يريد.
إن جلّ ما يكرهه قادة المعارضة في تركيا حقاً هو مدى قدرة الرئيس رجب طيب أردوغان على تشكيل التفاعل بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية على مدى 19 عاماً. ولعلهم لا يتقبلون إلى الآن قيام أردوغان بالرد على المنافسين بالكلمات تارةً، وبشكل عملي تارة أخرى مع مراعاة المصالح الوطنية. بل إنهم غاضبون من اتخاذ الرئيس قرارات جديدة على حساب الخيارات السابقة، التي انتقدتها المعارضة بشدة، ما يجعل ردة فعل المعارضة بدورها تدفعها إلى اتخاذ موقف عاطفي وغير عقلاني.
وفي أحدث مثال على ذلك، حاول رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال قليجدار أوغلو، في تعليقه على تطبيع أنقرة مع الإمارات، تعزيز حجته من خلال الإشارة إلى علامة رابعة وهي علامة سياسية تُرفع فيها أربعة أصابع مع طي الإبهام، وغالباً ما يستخدمها أردوغان، قائلاً: "ماذا حدث لرابعتك وإخوانك المسلمين؟ لا زلت أصر على قولي بأن الأكاذيب والتصورات الفارغة هي أساس القصر الرئاسي. وأنهم سيبيعون قضيتهم على الفور إذا كانوا سيكسبون المال". مضيفاً: "المسلمون الحقيقيون لا يدعمون القصر".
دعونا نتجاهل للحظة أن الجملة الأخيرة لزعيم المعارضة الرئيسي كانت مثالاً غير عادي على خلط الدين بالسياسة. لكن بعض المعلقين استندوا إلى تصريحات قليجدار أوغلو للاستفسار عن الأهمية الأخلاقية للاتصال بدولة متهمة بتمويل محاولة الانقلاب في 15 يوليو 2016 وولي عهدها. وربط آخرون محاولة التطبيع، التي كانت في طور الإعداد منذ ما يقرب من عام، بأحدث تقلبات العملة وانتقدوا الحكومة لمتابعة "التحرر الاقتصادي" بمساعدة الإمارات. بينما زعم آخرون، ممن هم أفضل إلى حد ما في التفكير التحليلي، أن التطبيع مع الإمارات يمثل "نهاية الإخوان المسلمين" و"الإسلام السياسي".
فما الذي حدث بالفعل؟
خلال الربيع العربي، دعمت تركيا السياسيين المنتخبين ديمقراطياً وعارضت الانقلابات العسكرية. ومثّل كلٌ من المصري محمد مرسي والتونسي راشد الغنوشي، حالة نموذجية تلامس صميم الموضوع. ومع ذلك علينا أن نلاحظ أن تركيا لم تحول انتقادها الصريح للانقلابات العسكرية إلى "ترويج للديمقراطية". ففي ليبيا، انحاز الأتراك إلى الحكومة الشرعية في ذلك البلد بما يتماشى مع مصالحهم الخاصة في شرق البحر المتوسط. وبالرغم من انتقاد انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي، كانت تركيا آخر دولة ترسل جيشها إلى سوريا عام 2016. وكان هدفها القضاء على "ممر الإرهاب" لتنظيم ي ب ك/بي كا كا الدموي، وإنشاء منطقة آمنة للاجئين. ولا يزال جيشها هناك للغرض نفسه.
ولم تجيّش تركيا المعارضين العرب وتحشدهم، بمن فيهم أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين الذين لجأوا إلى داخل حدودها، بعد الإطاحة بحكوماتهم الديمقراطية من قبل قوى الوضع الراهن في الخليج. ومن الواضح أن الشيء نفسه لا ينطبق على الجانب الآخر. وخوفاً من أن تتمكن الأحزاب الإسلامية الديمقراطية من تغيير العالم العربي، استهدفت قوى الوضع الراهن تركيا ورئيسَها. وعندما بدأت وسائل الإعلام الخليجية في مهاجمة تركيا في ذلك الوقت، تم تصوير أردوغان على أنه بطل الإسلام السياسي.
والسؤال الحقيقي هو لماذا استسلم الطرف الآخر؟
بعد أن نجح في تصنيف جماعة الإخوان المسلمين جماعةإرهابية، حاول الخليج احتواء إيران وتركيا من أجل حرق خطتهم الطموحة لإعادة تشكيل المنطقة. وفي الوقت نفسه، أثبتت تحركات تركيا بعد عام 2016 في سوريا وقطر وليبيا أنها غيرت قواعد اللعبة. لكن التغييرات الأخيرة في سياسة الولايات المتحدة تجاه منطقة الخليج بعد رحيل الرئيس دونالد ترامب، أجبرت جميع اللاعبين على مراجعة حساباتهم، مما أدى إلى رياح التطبيع التي تهب على المنطقة.
إذن، يجب أن يكون السؤال الصحيح كما يلي: لماذا تخلت بعض الدول عن معارضتها لسياسات أردوغان؟
أو بعبارة أخرى، هل انتهى عداء الخليج لتركيا الذي ارتبط بـ"الإسلام السياسي"، في ضوء الزيارة الرسمية لرئيس دولة الإمارات الأسبوع الماضي؟ وهل أقروا بأن سياسة أردوغان الإقليمية كانت ناجحة؟
والجواب الفصل هو أن تركيا لم تنتهج قط سياسة تتضمن التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة أو مهاجمتها. كما أنها لم تتردد في استخدام قوتها السياسية والعسكرية بطرق مشروعة، لضمان أمنها القومي. لكن إعادة تقييم جديدة وعقلانية درّاكة للمصالح الوطنية، يمكن أن تزيل التوترات بين الدول.