يمكن القول إن تاريخ الحياة السياسية في تركيا يمكن أن يعبر عنه السؤال التالي: "إلى أين تتجه تركيا؟" الذي جعل القادة والحركات الأيديولوجية منشغلين دائماً به. ومنذ السنوات الأخيرة للإمبراطورية العثمانية والسنوات الأولى للجمهورية إلى الحزب الديمقراطي وحكم الرئيس الراحل تورغوت أوزال وفترة حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، دأب الأتراك على مناقشة سؤال إلى أين تتجه بلادهم.
وقد أُطلق على غالبية خرائط الطريق وخطط الإصلاح الجديدة اسم "تركيا الجديدة"، وإلى الآن وقبل انتخابات عام 2023 التي ستجرى في الذكرى المئوية للجمهورية، ما زال السياسيون يتحدثون عن "تركيا الجديدة". ويبقى السؤال الأكثر شيوعاً داخل تركيا وخارجها هو إلى أين تتجه البلاد.
ويرى الكثيرون أن الإجابة على هذا السؤال تتعلق بشكل حاسم بسياسة تركيا الخارجية التي أصبحت أكثر نشاطاً وديناميكية في السنوات الأخيرة. الأمر الذي يمثل انعكاساً لأسئلة أنقرة حول النظام الدولي ومحاولاتها أن تجد لنفسها موقعاً جديداً ضمن هذا النظام. ومما لا شك فيه أن خريطة الطريق الجديدة لتركيا تدين أيضاً بأهميتها المتزايدة، لخطوات أنقرة الأخيرة في سوريا والعراق وليبيا والقوقاز وشرق المتوسط وإفريقيا، بالإضافة إلى توسيع شبكتها التجارية بمساعدة صناعة الدفاع.
وهو بطبيعة الحال ما يدفع الذين لا يرغبون في التصالح مع هذا الواقع الجديد إلى تبني حملات مشحونة أيديولوجياً. فمن وجهة نظرهم تجعل اعتراضات تركيا على المعايير المزدوجة التي تعرضت لها داخل التحالف الغربي، "غير جديرة بالثقة" أو حتى "عدوانية". ومع ذلك، فإن مجرد سؤال واحد يكفي للكشف عن تجني هذا النقد وتحيزه، وهو: هل يمكن أن نتوقع من تركيا قبول انضمام القبارصة الروم في الاتحاد الأوروبي بالرغم من رفض خطة عنان، أو عدم الوفاء بجميع الوعود للقبارصة الأتراك، أو فرض مطالب اليونان المتطرفة في شرق البحر المتوسط نيابة عن الاتحاد الأوروبي باسم الدبلوماسية؟
ولكن ما الذي يجعل فرنسا تأخذ زمام المبادرة؟
ليس من المستغرب أن يقضي الفرنسيون معظم الوقت في مناقشة إلى أين تتجه تركيا. لأن فرنسا تتنافس مع تركيا في الشرق الأوسط والقوقاز وشرق البحر المتوسط وإفريقيا، وبالتالي تفقد نفوذها تدريجياً. وغني عن القول أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليس مسروراً بفضح الرئيس أردوغان لأخطائه بينما يطالب بقيادة أوروبا سياسياً.
وتشير سلسلة من المقالات التي ظهرت في صحيفتي Le Point و Le Monde الفرنسيتين، إلى أن باريس منزعجة بشدة من تحركات أنقرة الأخيرة. ووفقاً للصحيفة الأولى، يجب على الجميع اتباع خطى فرنسا وتحدي مطالب تركيا وخصوصاً "مطالبها العدوانية"، زاعمةً أن هذا هو السبيل الوحيد للتوصل إلى حل وسط مع تركيا الجديدة. بينما تصف الصحيفة الثانية بدورها ديناميكية تركيا بأنها "ساحرة" و "مثيرة للقلق". ومع ذلك، فإن كلاهما تصفان تركيا ورئيسها بـ "العدوانية والإمبريالية المخيفة وغير المتوقعة".
التعامي المقصود عن خطوات تركيا ضد الإرهاب
لكن النقطة التي يتجاهلها الغرب عمداً هي أن أنقرة وسعت من تواجدها العسكري في سوريا وشرق البحر المتوسط وليبيا كضرورة اقتضتها مكافحة الإرهاب وإدارة أزمة اللاجئين وإبقاء جيرانها ذوي المطالب القصوى تحت السيطرة. وعلاوة على ذلك، صارت أوروبا عاجزة حتى عن معالجة مشاكلها، ناهيك عن البقاء لاعباً بارزاً في السياسة العالمية، من خلال استعداء تركيا.
والحقيقة أن الذين ترهبهم تركيا ويرغبون بالتالي في احتوائها يستهدفون أردوغان. وليست الصحيفتين الفرنسيتين مستثنيتين من ذلك. ويتجلى ذلك بوضوح في خطابهما البسيط والمباشر: "كان أردوغان مصلحاً، لكنه الآن يعيد إحياء الإمبراطورية العثمانية. إنه يعارض الزعيم المؤسس لتركيا مصطفى كمال أتاتورك بطابعه العثماني". وتتجاهل مثل هذه الجماعات بشكل متعمد أن الاتحاد الأوروبي يتغافل عن المصالح الاستراتيجية لتركيا، مما يجبر أنقرة على اتخاذ خيارات سياسية جديدة. ومن المفارقات الغريبة أن سياسة أردوغان الخارجية لا زالت وستبقى وفيةً لتقاليد التحديث التركي. ومع استعداد الجمهورية لدخول القرن الثاني لا يوجد أي تباين بين أتاتورك وأردوغان، بل هناك استمرارية وتكامل.
وختاماً، إذا كان الفرنسيون أو أصحاب التفكير المماثل يعتقدون أن تركيا ستتراجع عن مكانتها الدولية في ظل حزب العدالة والتنمية الحاكم بعد عام 2023، فعليهم إعادة التفكير من جديد.