أعرب العلمانيون المتطرفون في تركيا مؤخراً عن قلقهم من تطورين قد يمثلان "المسامير الأخيرة" في نعش العلمانية وهما عودة طالبان إلى السلطة في أفغانستان وبعض ممارسات حزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث يرى بعض المحللين روابط شبه واضحة بين هذين الأمرين.
ففي الوقت الذي يشعر فيه العالم بالقلق من قمع النساء الأفغانيات في ظل حكم طالبان، راح بعض الصحفيين والسياسيين الأتراك يبثون المخاوف من احتمال نشوء نظام توأم لطالبان في البلاد بحجة أن وصول المهاجرين غير الشرعيين من أفغانستان سيعزز "نهجاً شبيهاً بطالبان" في تركيا.
كما يتهم آخرون الرئيس رجب طيب أردوغان بأنه قد شكل بالفعل "حكومة شبيهة بطالبان" من خلال سياساته، مضيفين أنه أوصل الجمهورية العلمانية إلى "حافة الانهيار".
بديهي أن هذه المخاوف في غير محلها وأن الأشخاص الذين نشروا هذه الادعاءات يتجاهلون مرونة أنماط الحياة العلمانية ومبدأ الحكومة العلمانية. ولكي نكون واضحين تماماً، فإن تركيا ليست في وضع يسمح لها بالتعرض لتأثير الحياة الدينية كما في إيران أو أفغانستان أو المملكة العربية السعودية. بل على العكس تماماً، تتمتع الأمة التركية بتجربة غنية ومتنوعة يمكن أن تؤثر بشكل حقيقي على مواطني تلك الدول. وإذا كان هناك من عليه أن يشعر بالقلق، فهم حكومة كل من إيران والسعودية وطالبان وليس الأتراك أو حكومتهم.
أتاتورك والجمهورية:
من غير المحتمل أن يلعب الجدل حول العلمانية دوراً بارزاً في الحملة الانتخابية لعام 2023. إذ لا يوجد سبب لتوقع أن يعود حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي، الذي يأمل في كسب المحافظين ذوي الميول اليمينية، إلى نقاط الحديث القديمة والعلمانية المتطرفة. ومع ذلك، قد يحاول محرم إنجه الذي ترك حزب المعارضة الرئيسي مؤخراً، الاستفادة من مخاوف العلمانيين المتطرفين بشأن "انهيار الحكومة العلمانية" المزعومة والافتقار المزعوم إلى الأسس القيادية لشخصية مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية.
علاوة على ذلك، لا يخفى على أحد أن جزءاً كبيراً من المجتمع التركي بدا متردداً في إظهار غضبه القومي المتطرف علناً. ومن هنا جاءت إمكانية مناشدة حزب الشعب الجمهوري للعلمانيين المتطرفين المعنيين بشكل غير مباشر، بالإشارة إلى أتاتورك والجمهورية.
والحقيقة أن بعض الجمهوريين يتحدثون بالفعل عن "إنقاذ الجمهورية في قرنها الثاني".
برأيي لن يجد الناخبون هذا النهج جذاباً، لأن تركيا حققت تقدماً كبيراً فيما يتعلق بتطبيع تطبيق العلمانية وقبول أتاتورك من قبل جميع الفئات الاجتماعية وذلك من خلال تاريخ طويل وصعب خضعت فيه البلاد إلى نهج صارم خلال فترة الحزب الواحد للحكومة العلمانية. ثم بدأت عملية ديمقراطية تدريجية في ظل نظام التعددية الحزبية، بالرغم من انتهاكات الحرية الدينية التي وقعت في أعقاب الانقلابات العسكرية.
ومع ذلك كان التخلي عن ممارسات العلمانية المتطرفة والقمعية هو الاتجاه العام. والسؤال الهام هنا هو ما الذي على تركيا العودة إليه؟ لا شك أن حزب العدالة والتنمية يستحق معظم الفضل في التطبيع، بمعنى أن مطالب المجتمع الدينية قد تمت تلبيتها من خلال نظام ديمقراطي وعلماني. وكان ظهور بعض الرموز الإسلامية وتطبيع التعليم الديني نتاج كفاح الرئيس أردوغان السياسي. وأحدث مثال على هذا التطبيع كان الملازم "مبرأة أوزتورك" أول خريجة أكاديمية عسكرية تركية ترتدي الحجاب وتحصل على شهادتها من رئيس هيئة الأركان العامة.
وعملية التطبيع تلك التي دعمها المجتمع التركي بأغلبية ساحقة قد "باركها" حزب المعارضة الرئيسي أشد المدافعين عن العلمانية المتطرفة، بالرغم من أن سياسيي حزب الشعب الجمهوري وخاصة أثناء الحملة الانتخابية اتهموا حكومات أردوغان بـ "تحويل تركيا إلى دولة دينية شبيهة بإيران".
ونظراً لأن العلمانية المتطرفة لم تكن تحظى بشعبية بين الناخبين فقد تواصل حزب الشعب الجمهوري مع المحافظين ذوي الميول اليمينية في ظل حكم كمال قليجدار أوغلو. وهكذا "قبلت" المعارضة الرئيسية الحجاب باستخدام شراكتها مع حزب السعادة كدليل ولم تعترض على إعادة آيا صوفيا إلى وضعها كمسجد وجاءت لحضور افتتاح مقر جديد لمحكمة الاستئناف العليا، حيث تمت تلاوة الأدعية الإسلامية.
ومن المحتمل من الآن فصاعداً، ألا يؤثر المعلقون العلمانيون المتطرفون ولا زميلهم السابق محرم إنجه، على خطاب حملة قليجدار أوغلو لعام 2023. في الواقع، يفترض زعيم المعارضة الرئيسي أن تبني موقف "معتدل" تجاه المسلمين المتدينين ضروري لتشكيل تحالف واسع مناهض لأردوغان. ومن المستبعد جداً أن يفوز حزب الشعب الجمهوري أو أي حزب آخر بالأصوات إذا ما اعتمد على الحديث عن أتاتورك. ذلك لأن هذه الأرضية المشتركة لجميع الأتراك لا يمكن أن يستولي عليها أنصار أيديولوجية جامدة وعلمانية متطرفة. ويمثل مؤسس الجمهورية عنصراً أساسياً من عناصر الهوية الوطنية لتركيا التي تعتنقها مجموعات اجتماعية مختلفة. وفي ظل هذه الظروف، لن يؤدي التأكيد على السلبية إلا إلى حدوث انقسامات وتغذية الاستقطاب لإيذاء الأشخاص الذين يلجأون إلى مثل هذه التكتيكات.
ومع ذلك، فإن التهديد الحقيقي هنا هو الغضب العلماني القوي الذي يغذي الانتقادات حتى لأحزاب المعارضة الرئيسية وبمعنى آخر تلك الكراهية المستترة التي تنفر من المتدينين وتصل إلى حد الخوف من الإسلام.