أصبحت التحالفات الانتخابية السمة المميزة للسياسة التركية. وبعد انتخابات 2018 تنامت الأسباب والتوقعات في أن يواصل تحالف الشعب وتحالف الأمة المنافسة بينهما وأن يقوم كلا الجانبين بمحاولة كسب مؤيدي الطرف الآخر واستمالتهم إلى كفته.
وما حدث فعلا هو أن سياسات التحالف راحت تجتذب كل قضية إلى صالحها بقوة، الأمر الذي خلق مواقف أكثر خطورة مما كان متوقعاً في الأصل، لأن ذلك أدى إلى توقف السياسيين عن اعتبار قضايا الأمن القومي، مثل الحرب على الإرهاب "أرضية مشتركة" يبنون عليها أجندتهم السياسية التي من المفترض أنها في مصلحة الوطن.
في الوقت نفسه بدأت أحزاب المعارضة تنظر إلى محاولات ترسيخ الديمقراطية، مثل إقرار الإصلاحات ووضع دستور جديد وحقوق الإنسان، من منظور أولويات تحالفها فقط.
ثم قوبلت الجهود المبذولة لحماية الديمقراطية في تركيا من أعمال الإرهاب ومحاولات الانقلاب، باتهام -بات مألوفاً للغاية- أن الدافع وراءها هو الاستبداد.
والحقيقة أن هذا الادعاء لم يعد يوّصف أداء الحكومة، بل صار واضحاً أنه انعكاس لوهم عقلية متحجرة ورجعية. وتلجأ المعارضة اليوم لعذر واحد: "لا تصدقوا شيئاً فكل ما يتم طرحه ما هو إلا حركات تكتيكية".
وهكذا باتت المعارضة ترفض حتى الخطوات والمقترحات الإيجابية بمنتهى السهولة، زعماً أنها ستصب في مصلحة الكتلة الحاكمة بطريقة ما.
وقد لقيت خطة العمل التركية في مجال حقوق الإنسان التي كشف عنها الأسبوع الماضي نفس المعاملة بالضبط. حتى أن شخصيات المعارضة اختارت التقليل من أهمية الحلول التي عملت الحكومة على تطويرها رداً على الانتقادات، بدلاً من الضغط من أجل تنفيذها بشكل صحيح.
كما فعلت المعارضة الشيء نفسه رداً على اقتراح لصياغة دستور جديد ومدني. وراحت تسعى باتجاه الوصول إلى إجماع على نظام برلماني "مدعوم"، ورفضت الإصلاح الدستوري بحجة أن "المناخ السياسي ليس مواتياً".
وبعبارة أخرى، تعتقد المعارضة التركية أن عليها التحدث عن تعديلات دستورية لتوحيد صفوفها، بدل الحديث عن الدستور الجديد الذي تحتاجه البلاد والذي لم يعد مطروحاً على الطاولة.
وهذا الموقف سببه الحقيقي التوجس من استمرار الخلافات بين أطراف المعارضة، وهي التي تتفق جميعها على ضرورة عزل الرئيس رجب طيب أردوغان من السلطة.
ومن هنا تبرز عدم قدرة الدولة على الانخراط في نقاش عقلاني حول السياسة. لأن العذر نفسه يتم تقديمه فوراً في كل منعطف: "هذه خطوة تكتيكية من الحكومة، لذا لا نصدقها".
وتعمل أحزاب المعارضة جاهدة لقمع الخلافات الأيديولوجية الكبرى بينها. فقد واجه حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي في البلاد، انتقادات لاذعة لتخليه عن الهوية الكمالية وبدأ أعضاء هامين من الحزب بمغادرة صفوفه.
ورفضت التأكيدات القائلة بأن بعض أعضاء حزب الجيد لديهم صلات بجماعة غولن الإرهابية باعتبارها مزاعم من "عمل الحكومة".
لكن هذه الانشقاقات في صفوف حزب الشعب أدت إلى ظهور فروع له وانتشار الآراء الفكرية في الساحة السياسية. وهكذا ينتهي الأمر بتركيا بعدد كبير من الحركات المعارضة للحكومة وكذلك حركات منشقة عن أحزاب المعارضة الأساسية.
وصار كل من يشعر بالثقة في قدرته على الحصول على 1% من الأصوات الشعبية، يشرع في تأسيس حزب خاص به. ويوجد حالياً 12 حزبا ممثلاً في البرلمان التركي ومن المتوقع أن يصل هذا العدد إلى 14 في القريب العاجل.
وهذا الأمر بحد ذاته لا يعتبر جيداً للحزب الحاكم ولا للمعارضة. فانقسام الأحزاب الرئيسية يقلل من احتمال تشكيل حكومة متجانسة بعد الدورة الانتخابية القادمة. ففي نهاية المطاف الهدف الحقيقي للمعارضة هو الحكم.
لكن تركيز السياسة الفعال حول التحالفات السائدة حالياً، يرجع في الأصل إلى استناد النقاش حول أية مسألة سياسية إلى موقف تحالف الأحزاب السياسية منها والتي لم يعد هناك أرضية مشتركة تجمعها.
فما هي أسس التحالفات الحالية؟
بنظرة فاحصة يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الحركة القومية تحالفا بالهوية والسياسة رغم وجود بعض التوترات بينهما.
في المقابل، اختار تحالف الأمة وأعضاؤه التقليل من شأن خلافاتهم المتنوعة حول الهوية والأيديولوجيا والسياسة لأسباب تكتيكية وعملية.
ومن المعروف أن الديمقراطية تتطلب من الأحزاب السياسية تغيير وجهات نظرها من أجل إيجاد حل وسط. لذلك فإن قمع وجهات النظر الحقيقية للفرد بشكل مؤقت من أجل الاتفاق حول "السياسة السلبية" التي تعني معارضة كل شيء، ليس موقفاً صحيحاً لثقافة الديمقراطية.
بل إن الأمر الأكثر إشكالية هو أن الأحزاب السياسية مجزأة الآن وأعدادها آخذة في التزايد إلى درجة أن هذه الظاهرة قد تصبح أكبر مشكلة في مستقبل السياسة التركية.
ومن الواضح أن قيادة أردوغان القوية تخفي في الوقت الحالي الحجم الفعلي لتلك الأزمة بينما لا تبدي المعارضة المدمنة على مناهضة أردوغان، أي اهتمام بالأمر ويمضون في مناقشة الخطوات المستقبلية.