أرسى الرئيس رجب طيب أردوغان إطاراً لانتخابات عام 2023 من خلال الدعوة إلى دستور مدني جديد. وترجع حاجة البلاد إلى دستور مدني لاعتمادها دستور عام 1982 الذي يجسد تسلط قادة الانقلاب، وما نجم عنه على مدى السنوات الـ 39 الماضية من مناقشات متكررة حول إصلاحات محتملة تخللها 19 تعديلاً دستورياً. لكن تركيا لم تنجح بعد في حسم مشاكلها السياسية على المستوى الدستوري.
كشف "أوميت أوزداغ" الذي طرد من حزب الجيد مؤخراً أن أحزاب المعارضة الأربعة قد حددت مبادئ مشتركة لدستور جديد. ويحاول قادة المعارضة الذين لم يؤكدوا أو ينفوا هذا الادعاء، تشكيل جبهة مناهضة للحكومة يتمحور فكرها حول نظام برلماني "معزز". والواقع أن كمال قلجدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي، حاول تقسيم البلاد إلى "ديمقراطيين" و"مستبدين".
إن دعوة أردوغان لدستور مدني تمثل في الحقيقة جزءاً من أجندة إصلاح إدارته كما تنطوي على تحدٍ جريءٍ للمعارضة. وفور صدور دعوة الرئيس لمناقشة دستور جديد أعرب حزب الحركة القومية عن دعمه لهذا الاقتراح مؤكداً أن التحالف الشعبي سيبني خطته الدستورية على أساس النظام الرئاسي. كما يسعى الرئيس التركي من خلال صياغة دستور جديد "لتسهيل اغتنام الفرص التي أتاحتها التغيرات الكبرى في العالم وفي المنطقة الإقليمية، لصالح تركيا".
وغني عن القول إن كثير من التغيرات حدثت منذ تشكيل لجنة لجميع الأحزاب في البرلمان بعد انتخابات 2011 وحل اللجنة البرلمانية عام 2013. ومع ذلك فقد تكون الـ 59 مادة التي اتفقت عليها جميع الأطراف في ذلك الوقت، أساساً لجهد مشترك.
ويستند النقاش العام حول الدستور الجديد إلى نقطتين رئيسيتين أسس لهما التعديل الدستوري لعام 2017 الذي أدى إلى اعتماد النظام الرئاسي:
أولاً، مساعي تحالف الشعب إلى ترسيخ النظام الرئاسي، ورغبة المعارضة في استعادة البرلمانية.
ثانيًا، هناك نية لصياغة دستور تشاركي وتعددي وشامل على أساس الحقوق والحريات الديمقراطية. حيث تظهر كيفية تعامل كل حزب سياسي مع هذه النقاط رؤيته الخاصة حول مستقبل تركيا، الأمر الذي من شأنه أن يوسع أساس النشاط السياسي في البلاد.
أما تجنب مناقشة الدستور في هذه المرحلة لأي سبب كان، فسيكون بمثابة سلوك دفاعي يخلو من الإقدام. ويشير رد الفعل الأولي للمعارضة على دعوة أردوغان إلى أنهم يتصرفون وفق هذا السلوك بالذات.
من الواضح أيضاً أن الرئيس أردوغان فاجأهم بدعوته تلك التي لم تكن بشرى سارة بالنسبة لحزب الشعب الجمهوري ولا لأحزاب المعارضة الأخرى، وهم ينخرطون في محاولة تشكيل ائتلاف فضفاض من الحركات ذات العقليات المختلفة.
ويحاول قادة المعارضة في الوقت الراهن الانحراف عن الفكرة الأساسية عن طريق حث أردوغان على "الالتزام بالدستور الحالي أولاً" و "تشجيع تغيير العقلية". بل قاموا بوصف دعوته بأنها محاولة لتغيير الموضوع وتقسيم المعارضة وتأجيج الاستقطاب وتعزيز "حكم الفرد".
جاء ذلك على لسان قلجدار أوغلو من خلال ردّه الأولي بالقول إنه "يجب على المرء الالتزام بالدستور الحالي قبل بدء النقاش حول الدستور الجديد" مشدداً على الحاجة إلى الحياد الرئاسي. كما اشتكت رئيسة حزب الجيد ميرال أكشينار من محاولة لتغيير جوهر المحادثات في الوقت الذي تشير فيه ردود الفعل المتوالية إلى أن المعارضة ستستمر في انتقادات أكثر شراسة في المستقبل.
وللحقيقة نقول إن ميزان القوى في البرلمان لا يسمح لأي من الحلفاء بتعديل الدستور من جانب واحد إذ يتطلب الأمر 360 صوتاً. وبما أن كلا الجانبين يواصلان التمسك باختيار كل منهما للنظام، فلا يبدو أن "صفقة كبرى" تلوح في الأفق.
بل يبدو أن السبيل الوحيد للخروج من المأزق الحالي هو الحل الجزئي لتحالف الأمة وهو ما سيكون مؤلماً للغاية. ومن المرجح أن تقوم قيادة حزب الشعب الجمهوري في سعيها للحفاظ على تحالفها، بإلغاء النقاش حول الدستور من خلال اتهام الحكومة بمحاولة "تعزيز نظام الرجل الواحد".
أنا شخصياً لا أتفق مع الرأي القائل بأن النقاش حول الدستور هو مجرد نقاش سياسي. بل إن دعوة المعارضة إلى نظام برلماني "معزز" يجب أن يُنظر إليها بنفس وجهة النظر أيضاً.
فالسياسة تدور حول التفاعل بين خطط المتنافسين والصراع بينهم. لكن الاستفتاء الدستوري يجب أن تغلب عليه المنافسة الديمقراطية بين الرؤى الطامحة لتحقيق مستقبل مشرق لتركيا.
ومن المؤكد أن رفض مثل هذا التنافس المرتبط بمستقبل البلاد خشية أن يصب في مصلحة الحكومة أو الحزب الحاكم، سيكون دفاعياً وجباناً.