بلغت التوترات ذروتها مجدداً بين تركيا واليونان حول عدد من النزاعات التقليدية مثل قضايا قبرص وبحر إيجة، بالإضافة إلى الخلافات الأخيرة المتعلقة بالنفوذ البحري شرق المتوسط. وكانت أثينا قد حاولت قبلاً إبطال اتفاق تركيا وليبيا المبرم في نوفمبر 2019 بهدف الحد من السيطرة التركية على منطقة شرق المتوسط التي تمتد إلى خليج أنطاليا. وتعتقد أثينا أنها بدعم من فرنسا ومصر والإمارات العربية المتحدة والقبارصة الروم، تستطيع اتباع سياسة متطرفة وغير عادلة في كل قضاياها مع تركيا، وخاصة نزاعها الأخير حول الجرف القاري لبحر إيجه، حيث برز شرق المتوسط كمنصة رئيسية لتجدد التنافس بينها وبين تركيا.
ويلمح المسؤولون العسكريون اليونانيون إلى إمكانية نشوب حرب علنية، في إشارة إلى أن حكومة بلادهم اليائسة تستعد لمواجهة أحدث خطوات تركيا في المنطقة. لكن الأزمات السابقة بين البلدين علمت أثينا ألا تخاطر أبداً بمواجهة عسكرية مع أنقرة مثل أزمة جزيرة كارداك/ إيميا عام 1996 وطرد زعيم "بي كا كا" الإرهابي عبد الله أوجلان من اليونان قسرياً عام 1998. ومن الواضح أن اليونان، الذين لم يتمكنوا حتى من مجاراة قوة تركيا في التسعينيات، سيهربون من قتال الأتراك اليوم. ومنذ أن قلل الرئيس رجب طيب أردوغان من أهمية التهديدات اليونانية معتبراً إياها "رصاصات فارغة"، فضّل رئيس الوزراء اليوناني "كيرياكوس ميتسوتاكيس" تخفيف حدة التوترات. ومن المفيد هنا أن نتذكر أنه تلقى رسالة واضحة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العام الماضي خلال مكالمة هاتفية، بأن بلاده ستضطر إلى محاربة تركيا وحدها إذا ما وصل الأمر إلى ذلك الحد.
وفي حديثه الأخير في منتدى دلفي الاقتصادي لعام 2020، أعلن "ميتسوتاكيس" أن حكومته "منفتحة على الحوار" مع تركيا حول ترسيم الحدود البحرية. واقترح السياسي اليوناني أنه يمكن حل النزاعات بين البلدين في لاهاي، وحذر من أن أوروبا كلها سترد على تركيا في حالة انتهاك السيادة اليونانية. وبعبارة أخرى، نقل "ميتسوتاكيس" عداء اليونان لتركيا إلى مستوى تصعيد الضغط بواسطة الاتحاد الأوروبي. وما من شك في أن ممثل اليونان في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي اليوم، سيبذل قصارى جهده للدفاع عن مصالح بلاده المعلنة ذاتياً في شرق المتوسط. وإذا ما استجاب الاتحاد الأوروبي وسمح لليونان الأكثر عدوانية بقيادة سياسته تجاه تركيا، فسوف تتضرر المصالح الاستراتيجية الأوروبية طويلة المدى بشكل خطير. ويسعى الاتحاد الأوروبي في ضوء الدور العالمي المتغير لواشنطن، وضعف تضامن حلف شمال الأطلسي وانسحاب بريطانيا من الاتحاد، لإشراك الصين وروسيا. كما أن علاقات أوروبا مع تركيا، فيما يتعلق بأزمة اللاجئين والتهديدات الأمنية وغيرها من القضايا، ستكون ذات أهمية حاسمة لمستقبل المنظمة الدولية.
ومن هذا المنظور، سيكون من المفيد لألمانيا، التي ستتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في 1 يوليو، التعامل مع القضايا المتعلقة بتركيا مثل تحديث الاتحاد الجمركي وتحرير التأشيرات واللاجئين،. أما تكريس وفرض سياسة اليونان المتطرفة والجشعة تجاه تركيا في منطقة شرق المتوسط فمن شأنه أن يغذي التوترات بدلاً من تعزيز الحل. كما يفتقر الاتحاد الأوروبي ببساطة إلى القوة لإقناع أنقرة بإلغاء اتفاقها البحري مع ليبيا. وكذلك تسعى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بقوة من خلال توليها الرئاسة الدورية للاتحاد للمرة الأخيرة، إلى إعادة توحيد المنظمة إلى جانب تعهد الألمان بتعزيز وحدة أوروبا، وإخراج الاتحاد من أزمة الفيروس المستجد وتحسين مكانته العالمية. وبالتالي فإن ترك نزاعات شرق المتوسط تقود العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي إلى طريق مسدود، لن يخدم هذا الغرض.
لقد أبرز دعم تركيا لليبيا في الأشهر الأخيرة وإنجازاتها في ذلك البلد حقيقة أن الأتراك لن يغضوا الطرف عن سياسة اليونان الظالمة والعدوانية في بحر إيجه وشرق المتوسط. كما فشلت خطة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في تحقيق النتائج المرجوة عندما استخدام أثينا كمدفع لضرب تركيا من أجل تعزيز مصالح بلاده شمال إفريقيا.
ومع مواصلة الانقلابي الليبي "حفتر" فقدان السلطة وخسارة الأرض، يتعاظم الدور الروسي في ليبيا بسبب أخطاء الأوروبيين الذين لم يعيروا اهتماماً كافياً للبصمة الروسية المتنامية في ليبيا والتي تشكل تهديداً أكثر خطورة للاتحاد الأوروبي مقارنة بتركيا وهي الحليف في الناتو. دعونا نراقب ما إذا كانت ميركل ستتمكن بالفعل من إقناع ماكرون وميتسوتاكيس بضرورة تعزيز الاتحاد الأوروبي وإحياء علاقته مع تركيا.