كما هو متوقع، انتهى الأمر بالحملة الانتخابية البلدية في تركيا، في الغوص في إشكاليات القضايا الوطنية. كانت المعارضة تأمل في البداية في إضعاف حزب العدالة والتنمية الحاكم من خلال إثارة قضية الصعوبات الاقتصادية. ومع ذلك، فإن قرار رئيس حزب الشعب الجمهوري "كليجدار أوغلو" بتوحيد صفوفه مع حزب الشعوب الديمقراطي بالإضافة إلى حزب الجيد وحزب السعادة، حدد لهجة الحملة. وبعبارة أخرى، هو أطلق النار على قدمه وقوض إستراتيجيته. ومع اقتراب يوم الانتخابات، يتعمق النقاش العام حول البقاء الوطني والقومية "الحقيقية" و"كردستان". لا تترك حرب الكلمات المشحونة أيديولوجيًا أثرها على السباقات المحلية فحسب، بل تهمش أيضًا جميع اللاعبين الذين لا تُبنى منصّاتهم حول بقاء تركيا والمصلحة الوطنية. في محاولة لإعادة تأهيل صورة حزب الشعوب الديمقراطي، تطوع "كليجدار أوغلو" لإشراك مسألة البقاء الوطني. في مقابلة تلفزيونية، ادعى أن ميليشيا "ي ب ك/بي كا كا"، لن تهاجم تركيا أبداً.
كما ادعت "ميرال أكشينر"، شريكة "كليجدار أوغلو"، أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وصف الناس العاديين بالإرهابيين. بعد ذلك بوقت قصير، قال مرشح حزب الشعب الجمهوري في غرب تركيا إن أي تصويت يتم لصالح "كردستان" هو تصويت لصالح حزبه. وقام سياسي آخر من حزب الشعب الجمهوري، وعلى مسامع الناس من خلال ميكروفون مفتوح، بإهانة إمامٍ أثناء رفعه الأذان للصلاة. أخيرًا، احتج بعض المشاركين في مسيرة يوم 8 مارس في حي تقسيم على رفع الأذان، تمامًا كما حث أحد أعضاء حزب الشعب الجمهوري أنصار "بي كا كا" على دعم الحزب. يوضح هذا الاتجاه مدى صعوبة تصميم حملة انتخابية. إذ تميل الرغبات الدفينة والعواطف الحقيقية إلى الكشف عن نفسها في اللحظات الحرجة. وإن هذا النقاش المشحون أيديولوجياً ليربط اليوم حزب الشعب الجمهوري بما كان عليه من قبل -بالمعنى السلبي- في أذهان الناخبين.
في نظر الناخبين اليمينيين، يثير مسار حزب الشعب الجمهوري من عهد حكم الحزب الواحد تساؤلات حول مصداقيته. وقد واجهت الحركة منذ فترة طويلة انتقادات لحظرها تعليم القرآن وتتريك الأذان وإقصاء الدين عن الحياة العامة. ومع ذلك، أكد العديد من الناخبين أن التزام حزب الشعب الجمهوري بالقومية "الكمالية" جعله مؤيدًا لوحدة الشعب التركي. تغيرت وجهة النظر تلك في هذه الدورة الانتخابية، فتحالف الحزب مع حزب الشعوب الديمقراطي، ممثل الانفصالية القومية الكردية والداعي لفكرة "كردستان". إن اختيار "كليجدار أوغلو"، وإن كان بدافع من حرصه على الفوز بالناخبين الجدد، وضع حزبه في موقف صعب.
سيتم تذكر الانتخابات البلدية التي تجري هذا الشهر، على أنها نقطة انطلاق حاسمة في تاريخ تركيا، بطرحها المفهوم الشعبي للدولة والأمة للنقاش. انتقادًا لتركيز حزب الشعوب الديمقراطي على "كردستان" وادعاء "كليجدار أوغلو" بشأن "ي ب ك"، أدلى الرئيس أردوغان ببيان مهم في ديار بكر قال فيه: "كلما واجه إخواننا الأكراد أو العرب أو غيرهم، المتاعب في العراق أو في سوريا، يلتمسون اللجوء أولاً إلى تركيا. يوجد اليوم في تركيا 200.000 شخص من إخواننا وأخواتنا الأكراد من عين العرب، هنا الملاذ الوحيد للمضطهدين والمظلومين. لماذا؟ لأن تركيا هي الدولة الحقيقية الوحيدة في هذه المنطقة".
القول إن تركيا هي ملجأ للجماهير المضطهدة وهي دولة حقيقية، فيه دعوة الأمة التركية إلى الوحدة. إنه يضمن قدرة المجموعات العرقية المختلفة على العيش تحت السقف الواحد. إنها تذكرة بأن تركيا -على عكس إيران والمملكة العربية السعودية- تلعب دورًا مستقرًا في الشرق الأوسط.
نظرة تركيا إلى المنطقة لا تتمثل حصريًا بمخاوف الأمن القومي. بل تتحمل الدولة أيضًا مسؤولية حماية جميع شعوب المنطقة. والشعب الكردي لا يستطيع حماية حقوقه إلا إذا كانت تركيا قوية.
وبالتالي، فإن مسألة البقاء الوطني هي مسألة حماية سلامة الشعب التركي وجميع سكان المنطقة وبقائهم بخير.