استقال مسعود برزاني رئيس إقليم شمال العراق مؤخرا، لكن هذه الاستقالة لم تنهِ فقط حياته السياسية الخاصة، ولكن أيضا تسببت بفقدان حكومة الإقليم لسلطاتها الموسعة التي وصفت يوما ما بأنها شبه مستقلة. وبغض النظر عن التحذيرات من الدول الإقليمية، ترك برزاني مقعده بعار للولايات المتحدة.
ومع استمرار الجدل على المستوى القيادي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، لا تأمل بغداد في الحفاظ على سيطرتها على الأراضي المتنازع عليها، بما في ذلك كركوك فحسب، بل تتطلع أيضا إلى خلق بيئة في شمال العراق واستقلال المستقبل عن طريق السيطرة على بوابات الحدود التركية والإيرانية والمطارات وأنابيب النفط هناك.
وينظر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في دمج بيشمركة حكومة إقليم كردستان العراق في الجيش العراقي أو الاحتفاظ بها كقوة محلية طفيفة. ومن الواضح جدا إلى أي مدى يتسبب هذا الركود في إزعاج حكومة إقليم شمال العراق، التي حاولت تحقيق الحكم الذاتي منذ عام 1991. ومن المأمون القول إن الوضع قد تسبب في صدمة للقوميين الأكراد.
ومع انتهاء القتال ضد داعش تقريبا، استقال برزاني نتيجة الأزمة التي صحبت استفتاء الاستقلال، إذ أصبحت يد العبادي أقوى بكثير الآن. على مدى الأشهر الأربعة الماضية، أعيدت الموصل من قبضة داعش بينما أعيدت كركوك من قوات سيطرة البشمركة. ولم يخفِ العبادي رغبته في تطهير الأراضي القريبة من الحدود السورية من داعش، بينما وجد الدعم من واشنطن وأنقرة وطهران في نفس الوقت.
ومن ثم، يمكن القول إن بغداد اتخذت موقفا أكثر حزما في إدارة البلاد مقارنة بفترة ما قبل داعش. بل إن البعض يحتفل بهذا التطور باعتباره عودة جديدة للعراق. ومع ذلك، فمن السابق لأوانه القيام بهذا الاحتفال. وهناك قدر كبير من العمل على الرغم من آخر الإنجازات التي تحققت لحماية سلامة أراضي البلاد. ويجب إنشاء نظام سياسي من شأنه أن يتيح التعايش السلمي بين العرب الشيعة والسنة، والأكراد والتركمان. وقد واجهت متلازمة 2014 نظرا إلى أن هذه الصيغة لم تتحقق بعد الغزو الأمريكي في عام 2003.
وقد اتخذ العبادي خطوات إيجابية في دفع مليشيات الحشد الشعبي إلى الخلفية. وقد أصدر تصريحات دقيقة ومكتوبة جيدا لتأكيد وحدة الشعب العراقي والامتناع عن اضطهاد الأكراد. كما ركز بشكل كبير على التعاون بين إيران وتركيا والعراق في تشكيل مستقبل حكومة إقليم شمال العراق التي لا تزال مستمرة. ويمكن القول إنهم اتفقوا على الحد من السلطات الاتحادية لحكومة إقليم شمال العراق إلى حد خطير ويحرزون تقدما في إدماجه في العراق.
وخلال حديثه مع مجموعة من الصحفيين على متن الطائرة أثناء عودته من أذربيجان قال الرئيس رجب طيب أردوغان إن إدماج حكومة إقليم كردستان في باقي العراق كهيكل اتحادي سيفيد جميع العراقيين. وقال إنه تمت السيطرة على بوابة إبراهيم خليل الحدودية من قبل قوة مشتركة من الجيشين التركي والعراقي، بعد أن كانت تقبع تحت سيطرة قوات البشمركة. وخلال حديثه، أدرج أردوغان أيضا أولويات تركيا في العراق، حيث أكد دفع تنظيم "بي كا كا" الإرهابي المحظور من الأراضي العراقية، وتطهير سنجار، وإعادة 400 ألف تركماني إلى أراضيهم في تلعفر ودمج حرس نينوى في الموصل، وهو عنصر هام من عناصر المعادلة.
والواقع أن قائمة أردوغان تكشف عن التحديات التي تواجه العبادي. إن القتال ضد داعش على وشك الانتهاء، ولكن النازحين السنّة تجب إعادة إدماجهم في النظام العراقي. إذ إنه قد لا يذهب الملايين من السنة إلى صناديق الاقتراع إذا أجريت الانتخابات في إبريل 2018.
وعلاوة على ذلك، فإن دمج مليشيات الحشد الشعبي في الجيش العراقي لن يكون كافيا. من الضروري إلغاء الرموز الموالية للشيعة في الجيش وتحقيق التوازن بين الهيمنة الشيعية من خلال ترقية العراقيين السنة والأكراد إلى مواقع مؤهلة. يجب ألا ينسى العبادي أبدا أن سياسات سلفه نوري المالكي المؤيدة للشيعة أرست الأساس لولادة وانتشار داعش السريع في عام 2014.
بعد كل الصراعات، إنها مهمة صعبة لإدارة الاختلاف السني الشيعي. وعلاوة على ذلك، لا بد من إنشاء هيكل فدرالي لا يستنزف آمال حكومة إقليم شمال العراق تماما في أقرب وقت ممكن. يجب على العبادي أن يشكل إطارا لهوية عراقية موحدة شاملة من شأنها إعادة توحيد البلاد. وعلاوة على ذلك، عليه أن يضع حدا لدور العراق كـ "ساحة للحروب بالوكالة"، على حد تعبير مؤسسة الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأبحاث (سيتا). وعلى هذا النحو، يجب على العبادي أولا وقبل كل شيء أن يوازن بين التنافس بين واشنطن ودول الخليج وطهران على بلاده.
وعلى الرغم من أن العبادي طلب مؤخرا من إيران والولايات المتحدة التخلي عن هذا التنافس، فإن مهمته لا تزال صعبة جدا لأن العراق يكمن في قلب الإستراتيجية الأمريكية لتقييد إيران. تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة لديها حوالى 12 قاعدة وأكثر من 5 آلاف جندي وضابط عسكري إضافة إلى أكبر سفارة أمريكية في العالم في العراق.
العراق هو أيضا البلد الذي يتوسط خط المقاومة الإيرانية مع الغالبية الشيعية فيها. وتشكل آلاف المليشيات الشيعية مؤشرا واحدا فقط على نفوذ إيران. ويطلب من العبادي، الذي يقف حاليا على مفترق طرق المصالح الإستراتيجية المختلفة، أن يحافظ على التعاون القائم حديثا مع تركيا من أجل وضع سياسات تعزز العراق. إن التنافس بين الولايات المتحدة وإيران حول العراق يمكن أن يكون متوازنا بالدور الذي تلعبه تركيا. ومن المؤكد أن هذا التوازن سيسهم في عودة ولادة العراق الجديد.