يكشف التراث الغني لإنتاج الحرير، ابتداءً من أصوله القديمة في الصين والأناضول إلى صناعة الحرير العثمانية المزدهرة في مدن مثل بورصة، عن مزيج من الحرف اليدوية والفنية والتبادل الثقافي الذي جعل الحرير مشهوراً على مر التاريخ.
فعلى مدى العصور، ظل الحرير رمزاً للرفاهية والثروة والقوة والمكانة الاجتماعية. وهو لا يزال يدخل في الأزياء والمنسوجات والديكور وجوانب أخرى كثيرة في حياتنا بأناقته الطبيعية وملمسه الناعم ولمعانه المتألق التي جعلته نسيجاً خالداً.
كما أن عبارة "مثل الحرير" هي استعارة راسخة في اللغة التركية، حيث تصف شيئاً ناعماً للغاية ولامعاً وفاخراً بآنٍ معاً. وفي اللغة الإنجليزية، يمكن ترجمة هذه العبارة وإعادة صياغتها على النحو التالي: شعر ناعم كالحرير.
ولا توجد معلومات محددة حول الأصول التاريخية الدقيقة وبدايات اكتشاف الحرير. إذ تشير بعض المصادر إلى أن الصينيين اكتشفوا الحرير حوالي عام 3000 قبل الميلاد، بينما يزعم البعض الآخر أنه تم استخدامه في الجزء الغربي من الأناضول حوالي عام 2000 قبل الميلاد.
وتبدأ عملية إنتاج هذا النسيج الفريد والذي يصعب الحصول عليه وتعريفه، من تربية دودة القز كخطوةٍ أولية في توفير المواد الخام. وتنطوي عملية تربيتها على زراعة ورعاية أشجار التوت التي توفر الغذاء اللازم لدودة القز، وغزل خيوط الحرير من الشرانق ومن ثم نسج الخيوط المغزولة، وصباغة خيوط الحرير والمنتجات المنسوجة، وفي نهاية المطاف تجارة هذه المنتجات. ويمكن اعتبار هذه العملية بمثابة ملخص للعديد من أنشطة الإنتاج التي يتم تنفيذها بالتزامن مع تربية دودة القز.
وتعتبر عملية إنتاج الحرير الصعبة، السبب وراء جودته العالية وسعره. فالحرير الذي احتفظ بشعبيته وقيمته، معروف بمتانته ومقاومته للتمزق. وللتعرف على جودة هذا القماش، من الضروري الاهتمام بتفاصيل محددة، فعلى سبيل المثال يجب أن يتمتع القماش الحريري عالي الجودة بملمس ناعم ولامع، بينما قد تظهر على الأقمشة ذات الجودة الأقل اختلافات في الأنماط أو بقع تشبه العقد أو المناطق الخشنة. وتسلط هذه العوامل الضوء على أهمية فهم التفاصيل للتمييز بين صفات الحرير المختلفة.
ويمكن أن تنتج الشرنقة الواحدة خيوطاً حريرية يتراوح طولها من 900 إلى 1500 متر تقريباً. وتتضمن المرحلة الأولى من النسيج غلي الحرير الخام المستخرج من الشرنقة في الماء والصابون لإزالة الطبقة المعروفة باسم "السيريسين". وهذا الغليان ضروري لتنظيف الحرير. ويمكن أن يخضع الحرير المخصص للنسج، للغليان الثاني بعد عملية النسيج ليصبح جاهزاً للاستخدام في القماش، بينما تخضع خيوط الحرير المخصصة للسجاد للغليان بعد الغزل. وتستلزم الخطوة التالية تحضير الخيوط الحريرية بناءً على القماش المحدد الذي سيتم استخدامها فيه.
وبعد الحصول على خيط الحرير الخام، تكون الخطوة التالية هي عملية اللف. ويتضمن اللف تدوير الخيط حول محوره لمنع طبقات الخيط من الانفصال وضمان توحيده وزيادة قوته. ويمكن إجراء عملية الصباغة قبل النسيج أو بعده. وبمجرد نقل الخيوط والأقمشة الحريرية إلى دار الصباغة، يتم تمريرها عبر الماء الساخن ولفها على بكرات تدور باستمرار في آلات اللف. ويتم داخل أوعية الصباغة الخاصة بهذه الآلات، استخدام مواد مثل الخشب أو الفحم أو الراتنج أو مواد الصبغ للتلوين. ثم يتم رص الخيوط بإحكام وتجفيفها، أما بالنسبة للأقمشة فلا بد من كيِّها قبل بيعها.
وتتمتع الأقمشة الحريرية بقدرتها على عكس الضوء ومظهرها اللامع. كما يمكن تمييز نوعية الحرير بحيوية ألوانه حيث تعتبر الأقمشة ذات الألوان الساطع والثابتة ذات جودة عالية. وينبغي أن تحتوي العناصر المصنوعة من هذا القماش على غرز ناعمة وقوية.
وإلى اليوم يظل الحرير صناعة ذات أهمية كبيرة، ويستمر إنتاجه في العديد من البلدان حول العالم، خاصة في الصين والهند، باستخدام التقنيات التقليدية أو الحديثة.
ومن المعروف أن أول قماش حريري في تركيا تم نسجه في مدينة بورصة خلال الفترة العثمانية، إذ استخدمت مراكز المعالجة، الحرير الخام المستورد من إيران، إضافةً إلى إنتاج الحرير في مدن مثل بورصة وإسطنبول وتوكات وأماسيا وماردين، مع كون بورصة بارزة بشكل خاص. وبالرغم من الاختلافات الإقليمية، فإن أنماط الأقمشة الحريرية حساسة وأنيقة بشكل عام.
وخلال القرن الرابع عشر، لعبت بورصة دوراً حاسماً في إنتاج وتجارة الحرير. واكتسب تنوع الأنماط والزخارف في الثقافة التركية، إلى جانب الألوان النابضة بالحياة، إعجاباً عالمياً، ما جعل منتجات الحرير من بورصة تحظى باهتمامٍ كبير. وكان طريق الحرير الذي سمي على اسم السلعة الأكثر تداولاً في ذلك الوقت، يربط الصين بالأناضول وأوروبا، وكانت بورصة إحدى المحطات النهائية في الأناضول على طول هذا الطريق التاريخي.
هذا وتعدّ الأقمشة المنتجة في بورصة، إلى جانب تقنيات النسيج والصفات الفيزيائية للقماش والتصاميم، أعمالاً فنية. وتتمتع العناصر المصنوعة من حرير بورصة بما في ذلك المنسوجات والحرف اليدوية، بقيمة كبيرة.
وقد أشاد الرحالة يوهان هانز شيلتبيرغر في مذكرات سفره بعد زيارة مدينة بورصة، بجمال إنتاج الحرير ونماذجه المتنوعة في المدينة. وبالمثل، وصف المستكشف الشهير ابن بطوطة في مذكرات سفره، أسواق المدينة الجميلة وتجارتها الحيوية وخاناتها الرائعة. وتحمل بعض الأماكن التاريخية التي يكثر السياح من زيارتها بشكل متكرر في المدينة، أسماء مرتبطة بالحرير، مثل خان الحرير وسوق الحرير.
وعلى مر القرون، كانت منتجات الحرير من الأعمال الأساسية للإمبراطورية العثمانية. وقد اكتسبت الأقمشة الحريرية العثمانية، التي تم إنتاجها باستخدام أغنى المواد في ذلك الوقت، التقدير الذي تستحقه وأصبحت مشهورة في جميع أنحاء العالم. وقد تم نسج أجمل القطع الحريرية على الأنوال اليدوية باستخدام أحدث التقنيات المتاحة في ذلك الوقت.