تقدم أطباق الإفطار التركي بأصنافه العديدة واحدةً من أكثر تجارب الطهي تميزاً في العالم، ولا تعد هذه الوجبة بمثابة وليمةٍ فحسب، بل تخلق أيضاً لحظاتٍ لا تُنسى حيث يجتمع أفراد العائلة والأصدقاء معاً لتناول الطعام وتجاذب الأحاديث الممتعة التي لا تنتهي.
وفي عطلة نهاية الأسبوع السابقة، خططنا للقاءٍ عائليٍ مع أحد أقاربي الذي لم نره منذ فترةٍ طويلةٍ جداً، وافتقدناه كثيراً بمرور الأيام. وبينما كنا نناقش أين وفي أي وقت سنلتقي، جاء الجواب واضحاً تماماً إذ قررنا أن نجتمع معاً لتناول الإفطار. ووجبات الإفطار في تركيا ليست مجرد روتينٍ يومي، بل غالباً ما تكون وجبة مهمة تجمع العائلات والأصدقاء والأحباء معاً لتناول الطعام وتجاذب أحاديث ممتعة تكاد لا تنتهي، وفرصة لإطفاء الشوق بعد طول فراق. وأستطيع القول إن وجبة الفطور التركية تحتل مكانةً خاصةً جداً في الثقافة التركية.
ويجتمع الناس عادةً لتناول الإفطار وينغمسون في النكهات التركية اللذيذة المعدة خصيصاً لهذه المناسبة، وهم يتبادلون الأحاديث التي تمتد حتى وقت متأخرٍ من الظهيرة. وتعبّر هذه اللحظات الحميمية المشتركة بين العائلات والأصدقاء والجيران، بشكلٍ حقيقيٍ عن الروح الاجتماعية التي بتنا نفتقدها والتي ينبغي أن تدفعنا لتخصيص وقت أكثر لبعضنا.
وبعد انقضاء الفطور بوقتٍ قصيرٍ، وجدت نفسي متحمسةً للكتابة عن هذه الطقوس المذهلة التي تعد جزءاً من ثقافتنا، وشعرت بالكثير من الأشياء التي كنت بحاجةٍ لمشاركتها والتعبير عنها.
وكما يتفق الجميع، لا يمكن إنكار كرم الضيافة الاستثنائي للأتراك. فقد تم الترحيب بنا بابتساماتٍ دافئة وطاولة إفطار رائعة حقاً. وفي نهاية اليوم، ودَّعَنا القائمون على المطعم بكرم ضيافتهم المذهلة. وبينما كنا نواصل تذوق النكهات اللذيذة والمتنوعة التي تزين مائدة الإفطار، كنا نأمل ألا تنتهي أبداً تلك المحادثات التي امتدت حتى فترة ما بعد الظهر. وفي تركيا، من الشائع أن تبدأ تجمعات الإفطار على طاولاتٍ كبيرةٍ في وقت مبكر من اليوم وتمتد تقريباً حتى الظهيرة.
ويقدم هذا المقال بعض العناصر المشهورة والأساسية التي تتضمنها طاولات الإفطار التركية:
الجبن
الجبن بلا شك أحد أهم العناصر الفاعلة في وجبة الإفطار التركية. ولا يتم تزيين طاولات الإفطار بنوعٍ واحدٍ من الجبن، بل بمجموعةٍ واسعةٍ منه منتشرةٍ على طبقٍ كبير. وأذكر هنا بضعة أنواعٍ من الأجبان المشهورة في تركيا والتي يشير كل نوعٍ منها إلى منطقةٍ جغرافيةٍ تتفوق في إنتاجه، مثل جبن إزيني وتولوم وكاشار. كما يسلط جبن الماعز الضوء على عدة مناطق في البلاد، وهناك عدد كبير قد يصعب إحصاؤه من أصناف الجبن يمكن أن يقدم على موائد الفطور التركية.
المعجنات
وتوجد عائلة من المعجنات أو الفطائر في تركيا، سواء كانت محشوة بالجبن أو السبانخ أو البطاطس أو اللحم المفروم، وهي تعد تاج موائد الإفطار. كما يحتل السميت المقرمش والمغطى بالسمسم أيضاً جزءاً أساسياً من وجبة الإفطار أثناء التنقل، وخلال جلسات الإفطار التركية المريحة التي تستمر لساعات. أما الغوزلمة فهي عبارة عن معجنات رقيقةٍ محشوةٍ على شكل رغيفٍ ومشويةٍ على الجانبين، وتزين المعجنات وأنواع مختلفة من لفائف الخبز اللذيذة مائدة الإفطار.
الزيتون
إذا سألت من هو نظير الجبن في وجبة الإفطار، سأقول بالتأكيد الزيتون. ويعتبر الزيتون بأنواعه الأخضر والأسود من أهم النكهات التي تزين موائد الإفطار.
البيض بأنواعه
أحد العناصر الأساسية على طاولات الإفطار التركية، ويمكن تحضيره بطرقٍ مختلفة وفقاً للتفضيلات الفردية على كل طاولة إفطار. وقد يختار البعض سلق البيض وتقديمه مع الملح والفلفل الأسود والبهارات المختلفة. وقد يختار البعض الآخر العجة، في حين يفضل البعض تقديم البيض المخفوق مع شرائح رقيقة من السجق. وبالإضافة إلى ذلك، يلعب البيض دوراً مهماً في وجبة الإفطار بشكله الآخر المعروف بـ مينيمين، وهو مزيج رائع من البيض والطماطم وقطع الفلفل الملونة والتوابل.
العسل والقشطة
يُضفي العسل والقشدة لمسةً من النكهة على طاولات الإفطار. وتعد الكريمة المخثرة، المصنوعة عادةً من حليب البقر الطازج خير ما يُقَدم مع العسل، وتكون مصحوبة أحياناً بمربيات مختلفة. وهناك الكثير من الخيارات لتحلية مزاجك في بداية الإفطار أو نهايته. وفي مناطق مختلفة، يمكنك أن تجد تشكيلة متنوعة من المربيات التي تضفي حلاوةً على موائد الإفطار. وإذا كنت في تركيا، فقد تكتشف أنه بالإضافة إلى المربيات الكلاسيكية مثل الفراولة والكرز والخوخ، فإن المربيات مصنوعة من مكوناتٍ غير متوقعة مثل البطيخ أو الحليب أو حتى الباذنجان.
وبصرف النظر عن المربى والعسل، فإن الطحينة مع دبس العنب أو زبدة الجوز أو زبدة الفول السوداني هي أيضاً نكهات لذيذة تثير براعم التذوق على طاولات الإفطار.
الشاي التركي والقهوة
لا يمكن تصور الإفطار التركي بدون الشاي! لأن رشفة الشاي مع تراقص النكهات على براعم التذوق تمنحك إحساساً رائعاً مصدره الخبرة في إعداد الشاي المنقوع جيداً في أباريق الشاي المميزة وتقديمه في أكواب رفيعةٍ توفر اللمسة النهائية المثالية.
ويتم تقديم الشاي الأسود المخمر في أباريق الشاي مع السكر لمن يفضلونه محلّى، حيث يعد الشاي عنصراً لا بد منه على طاولات الإفطار التركية وجزءاً لا غنى عنه في المحادثات والدردشات. وفي بعض الأحيان، لا يكفي إبريق شاي واحد أبداً.
وبعد تذوق جميع النكهات في وجبة الإفطار، وحتى عندما يشبع الجميع تماماً، يكمل فنجان من القهوة التركية إحساس السعادة والرضا الذي حققته مائدة الإفطار.
فرق إقليمي بين مناطق تركيا
سحر الإفطار التركي لا يأتي فقط من نكهاته ولكن أيضاً من تنوعه. ويمكن أن تختلف طاولات الإفطار باختلاف مناطق تركيا، وذلك بفضل الثراء الجغرافي للبلاد.
فعندما تناولنا الإفطار في منزل صديقنا الذي ينحدر من منطقة البحر الأسود، شعرنا بلمسةٍ من البحر الأسود. وكان خبز الذرة يتصدر مائدة الإفطار، وهو من تخصصات منطقة البحر الأسود. وبعد ذلك، كانت هناك حلوى البحر الأسود الأسطورية، "المِهْلِمَة"، وهي عصيدة مصنوعة أساساً من الذرة والدقيق والجبن، والتي أصبحت جزءاً لا يُنسى من وجبة الإفطار.
وإذا وجدت نفسك على مائدة الإفطار لصديقٍ من ساحل بحر إيجه، فقد تجد الأعشاب الطازجة وزيت الزيتون والمأكولات البحرية.
وفي وجبة الإفطار الخاصة بجنوب شرق الأناضول، ستجد بالتأكيد الطحينة ودبس العنب. ومن ناحية أخرى، يقدم الإفطار في منطقة وسط الأناضول طعماً فريداً مع مزيدٍ من الفواكه المجففة والمعجنات المليئة بالبسطرمة.
ختاماً فإن الإفطار التركي هو وجبة غنية ومتنوعة تنشّط يومك. ويتميز بالخضار والفواكه والزبادي والمجففات الحيوية. وهو ليس مجرد وجبة، بل هو تجربة ثقافية تجمع الناس معاً، وعرض فني بأطباقٍ ملونة يعزز التواصل العائلي بما يدور خلاله من محادثاتٍ صباحيةٍ طويلة. ويعكس الإفطار التركي الثقافة والتاريخ وكرم الضيافة التركية، ما يجعله تجربةً فريدةً لا بد منها لكل زائرٍ للبلاد.