يبرز تاريخ ديار بكر القديم في الحفريات المستمرة في قلعة "زرزيفان"، التي تقدم نظرة عميقة عن الحياة اليومية والدينية عند الرومان.
خلال زيارتي لديار بكر الأسبوع الماضي، لم يكن لديّ وقت كافٍ للقيام بجولة في المدينة بأكملها، بسبب الأمطار الغزيرة.
ولم أتمكن من زيارة أهم المعالم الأثرية في المدينة، قلعة "زرزيفان". ومع ذلك، قبل ساعات قليلة من عودتي إلى إسطنبول، دعاني المضيفون في مديرية الثقافة والسياحة في ديار بكر ورئيس الحفريات، إلى القيام بجولة سريعة في الموقع وهو مدخل عبر الزمن إلى فترة الحكم الروماني في المنطقة.
في الصباح الباكر، توجهنا إلى قلعة زرزيفان، على بعد 13 كم من وسط مدينة "جينار" في حي "ديمير أولجيك". كنت برفقة "جميل ألب" و"محمد جان" من مديرية الثقافة والسياحة، ورئيس عمليات التنقيب في زرزيفان، الأستاذ المساعد "أيتاج جوشكون" من جامعة دجلة.
تقع قلعة زرزيفان على قمة تل، وتمتد على مساحة 6 هكتارات، وكانت تستخدم كمستوطنة عسكرية في العصر الروماني عندما كانت ديار بكر هي الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية. ربما كانت القلعة هي الحامية العسكرية الرومانية الأكثر أهمية من الناحية الإستراتيجية.
على الرغم من أن الحفريات لم تبدأ إلا عام 2014، إلا أن علماء الآثار أعادوا ترميم المستوطنة الموغلة في القدم، وحددوا كيفية استخدام القلعة من قبل الآلاف من الجنود والخدم الرومانيين.
عندما بدأنا الجولة، قال "جوشكون" كانت هناك قلعة أخرى يعود تاريخها إلى العهد الآشوري. وعندما استولى الرومان على المنطقة بعد القرن الثالث قبل الميلاد، بنوا هذه القلعة الضخمة وحولوا الآثار القديمة إلى واحدة من أكبر معاقل الإمبراطورية.
أثناء التجول حول الأنقاض، كان الأمر المدهش أن نجد مدى السلامة التي بقي الموقع محفوظاً فيها. قال "جوشكون" إنه بعد أن استولت الجيوش الإسلامية على المدينة من الرومان، غادر هؤلاء القلعة على وضعها الراهن، ثم هُجر المكان وأصبحت القلعة في النهاية مدينة أشباح. بعدها دُفن الموقع على الأقل 7 أمتار تحت الأرض، مما أبقاها 1500 سنة من التاريخ دون تغيير.
تحيط بالقلعة أسوار بارتفاع 15 متراً وطول 1200 متر، ويضم الموقع برج مراقبة يبلغ ارتفاعه 21 متراً، ومبنى إداري، ومساكن، ومخازن للحبوب والأسلحة، ومعبدا تحت الأرض، ومعابد، وخزائن جدارية، وقنوات مائية، و 54 خزان مياه، ومقابر منحوتة في الصخر.
بوصفها أفضل مقرات للجيش الروماني محفوظة على الإطلاق إضافة إلى موقع التنقيب، تعطي قلعة زرزيفان فكرة واسعة عن الحياة العسكرية الرومانية وتكتيكات الحرب والحياة المدنية اليومية.
ويبدو هذا الموقع المثير أن ثمة الكثير من الأشياء التي لا تزال مدفونة تحت الأرض في انتظار الكشف عنها. ويقول "جوشكون" إنهم بحاجة إلى 50 عاماً على الأقل للكشف عن كافة آثار هذا الكيان الروماني القديم، وأن موقع زرزيفان الأثري قد تم تعيينه كموقع تنقيب مستمر على مدار العام، بإذن من وزارة الثقافة والسياحة.
معبد ميثراس:
إن أكثر ما يثير دهشة وإعجاب علماء الآثار في زرزيفان هو معبد ميثراس. يبلغ طول المعبد المحفور داخل الصخر إلى الشمال من القلعة 7 أمتار وارتفاعه 2.5 متر.
هذا المعبد فريد من نوعه لأنه معبد الإله "ميثراس" الوحيد والأخير الموجود على الحدود الشرقية للإمبراطورية الرومانية ويعتقد أنه أول معبد لأتباع هذه الديانة، بناه الرومان.
"الميثراسيزم" هي عبادة "ميثرا"، وهو إله الشمس الإيراني وإله العدالة والعقود والحرب. عندما وسّعت الإمبراطورية الرومانية حدودها شرقأً، تبنى الرومان عبادة هذا الإله الإيراني عام 2 قبل الميلاد، وتم تكريمه كراعٍ للولاء الإمبراطوري. وبعد دخول الإمبراطور قسطنطين في المسيحية أوائل القرن الرابع، تراجعت هذه الديانة بسرعة وتم حظرها في النهاية.
كانت "الميثراسيزم" شائعة جداً بين الجنود والتجار والأرستقراطيين. وقد عرف علماء الآثار والمؤرخون اسم هذه الديانة، لكن طقوسها، التي كانت متاحة فقط للرجال، لا تزال لغزا لأنها كانت سرية وغير مسموح لغير المؤمنين بها التواجد في المعبد. وكي يرحب بالعضو الجديد ويسمح له بالانخراط في العبادة، كان يضطر إلى المرور عبر "12 عذاباً".
داخل المعبد، يمكن للمرء أن يشعر بطاقة غريبة تثير اهتمامه وتجعله يقترب. لا تزال الرموز التي تصف "ميثراس" مرئية للعين المجردة. يتكون مذبح المعبد من ثلاثة أقسام كانت توضع فيها أصنام ميثراس لأداء الطقوس. يضم المعبد أيضاً خطافات حيث كان يعلّق الثور قبل التضحية به قرباناً إلى الرب. يجمع حوض موجود تحت المذبح دماء الثيران، التي كان من المعروف أن المؤمنين يشربونها.
عندما تفحّصتُ المعبد، وجدت أنه من الصعب تصديق أن هذا المكان هو مسقط رأس المجتمعات السرية. على الرغم من أنه صغير، إلا أن السرية والإحساس بالأخوة في الميثراسيزم ألهمت العديد من المنظمات السرية والأخوية التي ظهرت بعد قرون وعلى مدار التاريخ.
لقد فجّر اكتشاف معبد ميثراس في موقع زرزيفان الأثري، عناوين الأخبار الوطنية والدولية في الأوساط الأثرية والتاريخية، مما حول زرزيفان إلى موقع جاذب لأولئك الذين لديهم فضول حول هذا الدين القديم.
هذا الاكتشاف مهم للغاية لدرجة أن البرنامج الوثائقي المسمى "على الطريق"، وهو سلسلة وثائقية ينتجها المجلس الدولي للآثار والمواقع، قد غير طريقه بعد التصوير في "كاتماندو"، لتصوير معبد ميثراس الذي كان ملهماً لدرجة أن الموسم الثالث للنجم "مورغان فريمان" من سلسلة "قصة الإله" ستعرض على قناة "ناشيونال جيوغرافي" قلعة زرزيفان، ومعبد ميثراس.
في العام الماضي، قدم الاتحاد العالمي لصحفيي وكتّاب السفر، الذي أسسه اتحاد صحفيي وكتّاب السفر الفرنسيين والبلجيكيين، "التفاحة الذهبية" ذات القيمة الاعتبارية الرفيعة، إلى ديار بكر لقيمتها السياحية التاريخية، وكرم ضيافة سكانها المحليين، وجهود القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية التي تسببت في زيادة الأنشطة السياحية في المدينة. لكن السبب الغالب لهذا الاهتمام والتكريم يرجع إلى اكتشاف معبد ميثراس.
وقد استقبل موقع زرزيفان الأثري العام الماضي، أكثر من 350.000 زائر، ومن المتوقع أن يزوره هذا العام حوالي المليون.
بقلم معراج تبان.