كان التأكيد على استمرار مكافحة الإرهاب، الذي يُهدد تركيا في الداخل والخارج، ومواصلة تحسين العلاقات مع الجوار الجنوبي لتركيا والرغبة في تهدئة التوترات مع الغرب والحفاظ على العلاقة مع روسيا أحد العناصر الأساسية في مشروع وزير الخارجية التركي لإدارة السياسية الخارجية، لكنّ أكثر النقاط أهمية في الرؤية، والتي تشكل العنوان العريض للسياسة الخارجية التركية في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان، هي التأكيد على طموح أنقرة بالتحول إلى قوة فاعلة ومستقلة في عملية إعادة تشكيل النظام العالمي.
فالدور النشط الذي تلعبه تركيا في الوقت الراهن في الكثير من القضايا الإقليمية والعالمية الكبيرة، وتعزيز الحكم الذاتي الاستراتيجي في سياستها الخارجية، يجعلان منها بالفعل قوة أساسية في الجغرافيا السياسية الإقليمية المحيطة بها، وقوة توازن بين القوى الكبرى.
حقيقة أن تركيا بعد عقدين من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، تحوّلت إلى قوة اقتصادية من بين أكبر عشرين اقتصاداً في العالم، وطوّرت على نحو كبير صناعاتها الدفاعية التي تُنافس اليوم الصناعات الدفاعية للقوى الكبرى من حيث الكفاءة والاهتمام العالمي بها، وتُقيم شراكات مُتعددة الأوجه مع القوى الإقليمية والعالمية على اختلاف هوياتها الجيوسياسية، تجعل منها أحد الفاعلين الإقليميين والدوليين المؤثرين في المنافسة الجيوسياسية الجديدة بين القوى الكبرى. لطالما حمل الرئيس رجب طيب أردوغان شعار "العالم أكبر من خمسة" للمطالبة بنظام دولي جديد عادل يُمثل مختلف دول العالم بأسرها ويُنهي احتكار القوى الكبرى في التحكم بمصائر العالم، لكنّ تركيا اليوم أصبحت قادرة على التعبير بشكل أقوى عن رؤيتها الطموحة من خلال التفاعلات القوية التي تقوم بها مع مختلف القوى، ومن خلال التفاعلات القوية معها، فضلاً عن علاقاتها المتنامية مع الدول الإفريقية والشراكات القوية التي تٌقيمها مع الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز.
في الحرب الروسية الأوكرانية على سبيل المثال، استطاعت أنقرة بفضل نهج التوازن الدقيق بين موسكو وكييف التحول إلى القوة الوحيدة القادرة على التواصل النشط مع الطرفين من أجل تهدئة حدّة الحرب واستكشاف آفاق السلام. بالرغم من أن آفاق تحقيق السلام بين روسيا وأوكرانيا في المستقبل المنظور تبدو محدودة للغاية إن لم تكن مستحيلة، إلآّ أن الدبلوماسية التركية النشطة أصبحت الأمل الوحيد للحد من تداعيات الحرب على العالم. يبرز ذلك بوضوح من خلال اتفاقية الحبوب التي انهارت مؤخراً بعد رفض روسيا تمديدها مرةّ أخرى، لكنّ أنقرة لا تزال قادرة على مواصلة نشاطها الدبلوماسي بقوة من أجل إعادة إحياء هذه الاتفاقية. إن الدور الحيوي الذي تلعبه تركيا في الحرب الروسية الأوكرانية فرض في الواقع قواعد جديدة في الصراع بين روسيا والغرب وسلّط الضوء على المكانة الجيوسياسية المهمة لتركيا في إعادة تشكيل الهيكل الأمني الأوروبي. بقدر ما أن استمرار الانسداد في هذا الصراع يزيد من الأهمية الجيوسياسية لتركيا في هذه المعادلة، فإن الطريقة التي سينتهي بها، ستُضاعف من هذه الأهمية إن على مستوى أمن ضفتي الأطلسي أو على مستوى تجارة الطاقة العالمية.
في الجوار الإقليمي الجنوبي، يبرز نشاط تركيا بوضوح أكثر في عملية إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية. من خلال فرض حضورها كفاعل قوي في الإقليم خلال العقد الماضي عبر المزج بين القوتين الصلبة والناعمة، تعمل أنقرة اليوم على إقامة شراكات مُتعددة مع مختلف الفاعلين الإقليميين على قاعدة الربح المتبادل، وهو ما عظم من الحضور التركي في المنطقة. ستؤدي الشراكات الاستراتيجية الناشئة بين تركيا والخليج العربي من جهة وبين تركيا وبعض القوى العربية الفاعلة مثل مصر والجزائر، إلى تعظيم فرص تحويل الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى منطقة استقرار في المستقبل. لأن التحولات التي طرأت على النظام الإقليمي منذ ثلاثة أعوام كانت في بعض جوانبها الرئيسية استجابة للتحولات التي طرأت على السياق الدولي، فإن صعود أدوار القوى المتوسطة مثل تركيا والخليج ومواءمة السياسات والمصالح فيما بينها يجعلها فاعلاً مؤثراً لا تقتصر أهميته على السياق الإقليمي فحسب، بل يشمل أيضاً السياق العالمي.
علاوة على ذلك، تخلق الشراكة القوية التي أقامتها تركيا مع الدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز هامشاً إضافياً لأنقرة لتعظيم دورها في السياسات العالمية. بالنظر إلى أن صعود أوراسيا ككتلة عالمية جديدة ذات مكانة اقتصادية كبيرة، فإن التفاعلات القوية لتركيا في هذه المنطقة يُحقق في جانب طموحات أنقرة الأوراسية ويُساعدها في جانب آخر في تعزيز دورها الجيوسياسي كقوة توازن بين الشرق والغرب. ما يُميّز تركيا عن غيرها من القوى متوسطة الحجم أنها تمتلك هوية جيوسياسية متشابكة بين الشرق والغرب. فمن جهة، تلعب دوراً نشطاً في حلف شمال الأطلسي، ومن جهة أخرى، عمّقت في السنوات الأخيرة من شراكتها مع روسيا في مجالات حيوية مُتعددة وتسعى للحصول على عضوية منظمة شنغهاي للتعاون، والتي تُشكل نافذة لتركيا على آسيا. في ضوء ذلك، فإن تركيا أصبحت قوة قادرة على التأثير بقوة في عملية إعادة تشكيل النظام العالمي.