ماذا ننتظر من السياسة الخارجية التركية؟
- محمود علوش , إسطنبول
- Jun 05, 2023
أردوغان شخصية استثنائية على المستوى العالمي. لم تشهد الديمقراطيات العالمية زعيماً مثل أردوغان استطاع أن يُحقق نجاحات في 16 استحقاقاً انتخابياً على التوالي ويُضيف بعد عقدين من الحكم ولاية جديدة لرئاسته. حتى لو سعى البعض في الغرب للتقليل من قيمة الديمقراطية التركية لتشوية نصر أردوغان الجديد، إلآّ أن الحقيقة التي لا يُمكن القفز عليها هي أن أكثرية الأتراك لا يزالوا يرون في أردوغان الوحيد القادر على إدارة بلدهم. ليس لأنه استطاع تحقيق نهضة كبيرة لتركيا وجعلها من بين أكبر عشرين اقتصاداً في العالم فحسب، بل لأنه أيضاً جعل منها قوة فاعلة في السياسة الخارجية.
كان جانب من الصراع الانتخابي بين أردوغان ومعارضيه يتمحور على شكل الهوية الجيوسياسية لتركيا. بينما استطاع أردوغان تحويل البلاد إلى قوة قائمة بحد ذاتها وتوازن في علاقاتها بين القوى الكبرى وناشطة بشكل فعال في السياسات الإقليمية، قدمت المعارضة المهزومة مشروعاً مختلفاً يُشكك في جدوى الانخراط التركي الفعال في القضايا المحيطة بها ويعد بإعادة التأكيد على هوية تركيا كجزء من المنظومة الغربية.
لعل ذلك ما يُفسر أسباب الحملة المعادية التي شنتها بعض وسائل الإعلام الغربية ضد أردوغان في الانتخابات وتمنت هزيمته. الآن، ومع اتضاح أن الرهانات الغربية على خسارة أردوغان فاشلة ومنفصلة عن الواقع تماماً، فإنه لم يعد هناك ما يدعو للقلق أو الشك بمستقبل المكانة التي حققتها تركيا في السياسة الخارجية خلال عقدين من الزمن. فتركيا التي عرفها العالم بعد مطلع الألفية الثالثة كدولة لا تتهاون في مصالحها الخارجية وتتبنى قضايا العالم الإسلامي في المنابر الدولية وتُنادي بالعدالة والمساواة في النظام العالمي وتُحافظ على مكانتها الحيوية في المنظومة الغربية وتولي أهمية لمواصلة شراكتها مع دول كروسيا، ستبقى كما هي.
من أهم السمات التي ميّزت عقدين من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان الموازنة الدقيقة التي أقامها في إعادة تشكيل العلاقات بين كل من الغرب وموسكو. لأن هذه الموازنة تتطلب قيادياً ماهراً يستطيع إتقانها وتوظيفها من أجل تحقيق مصالح بلاده في عالم مضطرب، فإن فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية يعني أن هذه الموازنة ستبقى فعالة ومثمرة. على عكس روسيا، التي تعاملت بإعجاب مع أردوغان لأنّه لم يُساوم على مصالح بلاده في ظل الضغط الغربي عليه، وقرر أن الحفاظ على العلاقات القوية مع موسكو هي مصلحة لتركيا، ظل الغرب خلال السنوات الماضية مُتردداً في العمل الفعال والمنتج مع أردوغان.
وفي السنوات الخمس المقبلة، لن يكون بمقدور الغرب تجاهل التعاون مع أردوغان لأن دروس السنوات الماضية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن أنقرة قادرة على مواصلة سياستها الخارجية بشكل حازم بمعزل عن طبيعة علاقاتها مع الغرب. لا تزال تركيا تنظر إلى نفسها على أنها جزء من الغرب، لكنّها خلقت لنفسها إطاراً خاصاً بها مكّنها من الحفاظ على هويتها كجزء من حلف شمال الأطلسي، وبين إقامة علاقة وثيقة مع روسيا تضمن مصالحها ولا تُغير من هويتها.
على المستوى الإقليمي، أضحت تركيا بعد مطلع العقد الماضي لاعباً فاعلاً في محيطها الإقليمي الجنوبي بعدما خلقت تحولات "الربيع العربي" فراغاً أمنياً خطيراً فرض عليها الانخراط بفعالية في الصراعات المحيطة بها للحد من ارتداداتها عليها والمساهمة في تحقيق الاستقرار الإقليمي. تبرز تركيا والعراق وليبيا مثالاً على ذلك. مع فوز أردوغان، سيستمر الانخراط التركي في القضايا الإقليمية بالتوازي مع النهج الجديد الذي بدأته أنقرة قبل ثلاث سنوات، والذي يقوم على إعادة إصلاح العلاقات مع خصوم إقليميين سابقين.
مع مصر على سبيل المثال، تتجه أنقرة والقاهرة إلى رفع مستوى الدبلوماسي وإعادة تبادل السفراء لتتويج مسار المصالحة بينهما. وفي القضية السورية، خلقت تركيا آفاقاً جديداً لإحلال السلام في هذا البلد المجاور من خلال الشروع في حوار مع النظام السوري وطرح خارطة طريق من ثلاث نقاط أساسية تشمل معالجة هواجسها الأمنية وإعادة اللاجئين السوريين ودفع مسار التسوية السياسية. لأن المعارضة التركية لم تؤكد على حفاظ تركيا على دورها النشط في القضية السورية، فقد أثيرت الكثير من الشكوك حول مستقبل الدور التركي في سوريا. مع فوز أردوغان، فإن هذه الشكوك تبددت.
تبرز العلاقات الجديدة التي أقامتها تركيا مع دول الخليج خلال السنوات الأخيرة كأحد أعمدة النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكل في المنطقة. ستواصل أنقرة في ظل الولاية الجديدة للرئيس رجب طيب أردوغان تنمية هذه العلاقة مع الخليج على كافة المستويات لتحقيق تكامل إقليمي يُساعد في نقل هذه المنطقة من مرحلة الاضطرابات إلى مرحلة السلام والاستقرار. إن استمرار الانخراط التركي الإيجابي في قضايا المنطقة يُشكل مصلحة لدول المنطقة التي سيكون بمقدورها الاعتماد بشكل أكبر على تركيا ومكانتها الدولية لدفع العالم إلى تركيز جزء من اهتماماته على العمل من أجل إنهاء صراعات المنطقة.