يشهد الإعلام السعودي هذه الأيام حملة ضد تركيا لا مثيل لها حتى في الإعلام الغربي، حتى أن مقالة سابقة لوكالة الأناضول حول معاداة الأتراك في الإعلام السعودي قد تم استغلالها أيضًا لمعاداة تركيا ما يطرح جدوى القول إن "تركيا ليست عدوا لكم".
هذا وتواصل وسائل إعلام مرئية ومكتوبة في المملكة نشر أخبار كاذبة آخرها خبر "اختفاء 1006 مواطنين سعوديين في تركيا، دون العلم بمصيرهم"، على حد زعمها.
وعلى خلفية هذا الخبر، دعت وسائل الإعلام تلك السعوديين وباقي المواطنين الخليجيين لعدم زيارة تركيا "حفاظا على أرواحهم وأموالهم التي ستتعرض للخطر إذا ذهبوا إليها"، في محاولة لبث الذعر والخوف لدى السياح.
مزاعم لا أساس لها:
وتزعم وسائل الإعلام هذه، أن نسبة السياح السعوديين القادمين إلى تركيا شهدت تراجعا بحدود 60 ـ 70 بالمئة، فيما لم يخرج صحفي أو إعلامي واحد، ليثبت صحة هذه المزاعم بالوثائق والأرقام الرسمية، باستثناء حمود أبو طالب، الكاتب لدى صحيفة "عكاظ"، الذي طالب سلطات بلاده بالكشف عن مصير مواطنيها "المفقودين".
السفارة توضح:
أول التصريحات الرسمية بهذا الخصوص، كان في بيان أصدرته سفارة أنقرة لدى الرياض.
وقالت السفارة إنه "شوهد خلال الأيام الأخيرة في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي وغيرها، تداول أخبار غير صحيحة ومزيفة عن اختطاف وفقدان مواطنين من دول الخليج، وعلى رأسهم سعوديون، وتعرضهم للاعتداء في تركيا وسرقة جوازات سفرهم، والترويج لفكرة أن تركيا أصبحت دولة غير آمنة للسياح".
وأضافت: "يجب عدم أخذ هذه الادعاءات الباطلة بالحسبان، إذ أنه لا صحة لها ولا تستند إلى معلومات أو أدلة ملموسة، وهي عبارة عن إعلانات مغرضة تهدف إلى تضليل الرأي العام، علما أن عدم وصول أي شكوى أو طلب إلى سفارتنا، أو الجهات المعنية بهذا الخصوص، يعد مؤشرا ملموسا على عدم صحة هذه الادعاءات".
وأكدت السفارة التركية أنها "جاهزة لتقديم كامل المساعدة والدعم لأي طلب يرد من الإخوة السعوديين، عن تعرض أحدهم أو أحد أفراد عائلاتهم أو أقاربهم لأي ممارسة من هذا النوع".
الأرقام تكذب المزاعم:
وكشفت السفارة في بيانها أيضا، عن أعداد السعوديين الذين زاروا تركيا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، والتي تجاوزت 75 ألفا، أي أن هناك "ارتفاعا ملحوظا" مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
محاولات متكررة وحثيثة للتشويه:
جريدة "الوطن" السعودية، نشرت ولثلاثة أيام متتالية، تقارير تسعى إلى إثبات أكذوبة ممارسة القائد العثماني فخر الدين باشا، الظلم والانتهاك ضد سكان المدينة المنورة، في الفترة بين 1916 ـ 1919، وكأنه لم يبقَ أحد في العالم ليتحدث عن أحداث عام 1915، سوى الإعلام السعودي!
وفي مقال له بعنوان: "لماذا قتلت الدولة العثمانية 1.5 مليون أرمني؟"، يتناول محمد الساعد، الكاتب لدى "عكاظ"، أحداث 1915 وكأنه كان شاهدا عليها، متجاهلا السكان العرب والأتراك والأكراد الذين قتلتهم العصابات الأرمنية.
من الواضح أن ما يسعى إليه هؤلاء ليس الكشف عن حقائق التاريخ، بل ممارسة التحريض والبروباغندا. إذ أن تركيا تطالب دوما بتشكيل لجان مختصة مكونة من مؤرخين وباحثين، للتحقيق في أحداث عام 1915 في ضوء الوثائق الأرشيفية، إلا أن الجانب الأرميني يرفض مقترح أنقرة.
هاني الظاهري، كاتب آخر لدى الصحيفة نفسها، يشبّه الدولة العثمانية بأنها "دولة داعش الأولى"، ويشترط في مقال آخر له، عدم تناول الإعلام التركي أخبارا ضد السعودية وإدارتها، شرطا لتخليه عن كتابة محتويات حول العثمانيين، معترفا في الوقت ذاته بالغاية التي يكتب من أجلها.
في المقابل، فإن الأخبار والتحليلات المنشورة لدى الإعلام التركي حول السعودية وقيادتها (يغلب عليها الانتقاد البنّاء)، لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة.
المحتوى الرئيسي للإعلام السعودي هو تركيا وإيران وقطر والإخوان المسلمون. حتى أن حجم تغطيتها يطغى على أزمة اليمن التي تحدث على حدودهم.
وفي الوقت الذي قوبلت فيه أخبار خسارة الحزب الحاكم في تركيا (العدالة والتنمية)، بعض بلديات الولايات، بالفرح والسرور، يتم تصنيف أنقرة والدوحة ضمن "مثلث الشر" مع طهران.
ويرى الإعلام السعودي أن "قطر وتركيا تعرضتا لضربة موجعة" بسبب الأحداث الأخيرة في الجزائر والسودان وليبيا، كما يؤكد أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تصنيف الحرس الثوري الإيراني "منظمة إرهابية"، سيكون بمثابة ضربة كبيرة ضد أنقرة والدوحة وطهران معا.
في الواقع، هناك العديد من القضايا المهمة والمسائل الأخرى التي يجب على الإعلام السعودي أن يتناولها بدل مهاجمة تركيا.
آخر الأمثلة على ذلك، هو إساءة ترامب للعاهل السعودي الملك سلمان خلال كلمة له في أحد خطاباته الجماهيرية بالولايات المتحدة. حيث تحدث بسخرية وتهكّم عن مكالمة هاتفية مع "الملك"، إلا أننا لم نرَ الإعلام السعودي يتناول هذا الحدث ولو بكلمة واحدة.
لا شك أن ممارسات ترامب هذه أزعجت الصحفيين السعوديين، لأن الشخص المستهدف هو خادم الحرمين الشريفين، وكان المفروض ألا يظلوا صامتين على هذه الإساءة تجاه الملك سلمان.
بإمكان الإعلام السعودي، الحديث أيضا عن "صفقة القرن" التي يستعد ترامب لإعلان تفاصيلها بعد شهر رمضان، أو تناول القضية الفلسطينية، أو إهداء واشنطن مرتفعات الجولان التي هي في الأصل سورية إلى إسرائيل، أو الحديث عن كيفية إنهاء الحرب اليمنية، أو بذل الجهود حول كيفية إيجاد حل للأزمة مع قطر، وإنهاء نزاع الإخوة في بلدان الخليج العربي.
دور الإعلام في تطوير علاقات البلدين:
اكتسبت الأخبار المعادية لتركيا في الإعلام السعودي زخما أكبر عقب أزمة حصار قطر، وجريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي.
ولا نبالغ إن قلنا إنه لا يوجد أي خبر أو تحليل خلال هذه الفترة، يحث على ضرورة تجاوز أنقرة والرياض هذه المرحلة بشكل لا يضر بعلاقات البلدين.
يُستثنى من ذلك مقال نُشر في صحيفة الرياض 26 فبراير/ شباط الماضي، للكاتب في الصحيفة نفسها، زهير الحارثي.
ويتطرق الحارثي في مقاله إلى علاقات البلدين قبل الربيع العربي، مشيرا أن سياسة انفتاح أنقرة القائمة على مبدأ "صفر مشاكل مع الجيران"، يمكن أن تكون بديلا للعرب في وجه التوسع الإيراني بالمنطقة.
لكن الحارثي الذي يشغل منصب عضو مجلس الشورى السعودي، يربط الحديث بطريقة ما بالعثمانيين والإخوان المسلمين وقطر وجريمة اغتيال خاشقجي، دون أن يقدم أي مقترح حل لتجاوز البلدين المرحلة الحالية دون أن تتأثر علاقاتهما سلبا بالمستجدات الراهنة.
التطورات الإقليمية والدولية تؤثر بشكل مباشر على تركيا والسعودية، أكبر بلدين في العالم الإسلامي، وتجبرهما على التعاون والتحرك معا، وبالتالي يمكن القول بضرورة تطوير العلاقات بينهما والعمل معا على إيجاد حلول للأزمات الإقليمية والعالمية، بشكل يرسخ مكانة البلدين.
وفي هذا الإطار، يجب على الإعلام أن يلعب دورا إيجابيا وبنّاء خلال هذه المرحلة.
السفير السعودي لدى أنقرة، وليد بن عبد الكريم الخريجي، أكد هذه النقطة في كلمة له خلال "اللقاء الإعلامي التركي السعودي"، الذي عقد في أنقرة بتاريخ 23 مايو/ أيار 2018.
وشدد "الخريجي" على ضرورة تجنب الوسائل الإعلامية لدى البلدين الأخبار والمحتويات التي من شأنها الإضرار بعلاقات أنقرة والرياض.
تصريحات السفير السعودي مهمة، ونحتاج إلى مزيد من هذه الأصوات الإيجابية لدى كلا الطرفين.
من الطبيعي أن تعكس وسائل الإعلام لدى البلدين، رؤية واستراتيجية حكومتيهما، لكن يجب ألا تستخدم لغة عدوانية وإقصائية تجاه الطرف الآخر.
تاريخ العلاقات الثنائية يحتم التعاون بين البلدين:
هناك العديد من القضايا الإقليمية والدولية التي تحتم على البلدين التعاون والتحرك معا، أبرزها التطورات الأخيرة في الجزائر وليبيا والسودان، والعقوبات على إيران، والقضية الفلسطينية، لا سيما أن تاريخ العلاقات الثنائية يمتد إلى ما يقارب 100 عام.
بداية العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة والرياض، كانت بتاريخ 3 أغسطس/ آب 1929، أعقبتها العديد من الزيارات المتبادلة، وتوقيع اتفاقات ومعاهدات في شتى المجالات.
وفي بدايات الألفية الثانية، ترسخت علاقات البلدين تزامنا مع زيادة التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب.
وشكلت زيارة العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى تركيا في 8 أغسطس 2006، نقطة تحول مهمة في تاريخ العلاقات، وشهدت توقيع 6 اتفاقات بين أنقرة والرياض.
وبحلول عام 2015، وخلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الرياض، وقع البلدان اتفاقية التعاون الإستراتيجي.
ثم زار الملك سلمان بن عبد العزيز تركيا في أبريل/ نيسان 2016 ووقع البلدان معاهدة لتأسيس مجلس التنسيق التركي السعودي، وعقد المجلس اجتماعه الأول برئاسة وزيري خارجية البلدين، في أنقرة بتاريخ 7 ـ 8 فبراير 2017.
أما على الصعيد العسكري والصناعي، فقد أحرز البلدان تطورا ملحوظا، حيث شاركت القوات المسلحة التركية في مناورات استضافتها الرياض، فيما تلقّى عناصر من القوات الجوية السعودية، تدريبات في ولاية قونية وسط تركيا.
وفي ما يخص العلاقات التجارية، وصل التبادل التجاري بين البلدين قرابة 5 مليارات دولار، وتولت شركات تركية مشاريع مهمة في السعودية، ضمن إطار "رؤية 2030"، وسط توقعات بالمشاركة في المزيد من هذه المشاريع.
في السياق ذاته، تعد تركيا وجهة مفضلة للسيّاح السعوديين، وتشهد أعدادهم ازديادا مستمرا يوما بعد آخر، فيما يحتل المستثمرون السعوديون المراتب الأولى ضمن استثمارات العقار في تركيا.
كما يزور أكثر من 500 ألف مواطن تركي سنويا، السعودية لأداء فريضتي الحج والعمرة.
مصالح مشتركة وانزعاجات:
وكما أن هناك بعض القضايا التي تجمع بين مصالح تركيا والسعودية، مثل مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان والعراق واليمن، ورحيل نظام بشار الأسد، فإن هناك بعض الممارسات السعودية أزعجت أنقرة إلى حد كبير.
وأبرز تلك القضايا دعم السعودية لتنظيم "ب ي د/ ي ب ك"، الذراع السوري لمنظمة "بي كا كا" الإرهابية، تحت مسمى "إعادة إعمار المناطق المحررة من تنظيم داعش شمالي سوريا".
في المقابل، أعلنت أنقرة دعمها للتحالف العربي في اليمن، بقيادة الرياض، فور إطلاق الأخيرة "عاصفة الحزم".
إلا أن السياسات الخاطئة والسرية للإمارات في اليمن، وتسبب التحالف في مقتل العديد من المدنيين، أزعجت أنقرة، شأنها في ذلك شأن المجتمع الدولي.
كما وقفت تركيا بجانب السعودية في وجه قانون "العدالة في مواجهة رعاة النشاط الإرهابي" (جاستا)، الذي أصدره الكونغرس الأمريكي، في خطوة لتوجيه الاتهام ضد الرياض بالضلوع مباشرة في اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
الرئيس أردوغان، صرّح شخصيا خلال مقابلة خاصة أجراها مع قناة "روتانا"، بوقوف أنقرة إلى جانب الرياض ضد قانون "جاستا".
رغم جميع الخلافات، وبعض السياسات المتباينة بين تركيا والسعودية، إلا أنها لم تصل مرحلة القطيعة التامة.
ولم تكن أنقرة تنوي يوما تصعيد التوتر والخلاف مع الرياض، رغم معارضتها الانقلاب في مصر، وحصار قطر.
بل إنه من الممكن جدا فتح صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين البلدين، مع إنهاء نزاع الإخوة، القائم بين السعودية وبعض البلدان الخليجية من جهة، وقطر من جهة أخرى.
واضح أن تأسيس تركيا قاعدة عسكرية في قطر أزعج السعودية وبعض البلدان الخليجية، لكن أنقرة أكدت مرارا أنها مستعدة لتأسيس قاعدة لها في السعودية، إذا طلبت الأخيرة منها ذلك.
كما تؤكد أنقرة دوما استعدادها للوساطة بين الأشقاء الخليجيين لإنهاء أزمة قطر.
موقف أنقرة من جريمة خاشقجي لمصلحة الرياض:
تبنت تركيا منذ اللحظات الأولى لجريمة اغتيال خاشقجي داخل مبنى قنصلية بلاده بإسطنبول مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2018، موقفا إيجابيا عبر دعوة السلطات السعودية إلى التعاون لكشف الحقيقة.
حتى أن الرئيس أردوغان وجه شخصيا دعوة إلى العاهل السعودي، للتعاون من أجل كشف الحقيقة في القضية، مستثنيا تورط الملك سلمان بهذه الحادثة بشكل كامل.
وواصلت أنقرة تبني لغة حذرة ومعتدلة تجاه الرياض بهذا الصدد، في خطوة الهدف الحفاظ على استقرار السعودية والمنطقة، وعدم السماح بأن تتسبب جريمة خاشقجي في زعزعته.
خلاصة الحديث: تعاون أنقرة والرياض في العديد من القضايا التي تهم المنطقة أمر حتمي لا بد منه، فيما تتمحور سياسات الأطراف القادمة من خارج المنطقة، حول مصالحها دون مراعاة استقرار ورفاه المنطقة وسكانها.
وفي ظل الصراع الذي تشهده المنطقة، يمكن لتركيا والسعودية ترسيخ تعاونهما في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية.
ولا شك أن على الإعلام أن يتبنى دورا فاعلا وإيجابيا في هذا الإطار.