يجري الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اليوم الأربعاء، زيارة رسمية إلى موسكو يلتقي خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في مشهد اعتاد الإعلام الدولي رؤيته خلال السنوات الاخيرة. إذ التقى الزعيمان خلال 2018 فقط 8 مرات. ويرجع السبب في كثرة اللقاءات الثنائية والاتصالات الهاتفية بين أردوغان وبوتين إلى طبيعة العلاقات المتميزة بين البلدين في الآونة الأخيرة والظروف الإقليمية التي تفرض على البلدين بذل ما بوسعهما لتحقيق أقصى تعاون ممكن بما يتماشى مع مصالحهما السياسية والاقتصادية والأمنية أحياناً.
لم تكن العلاقات التركية- الروسية في أحسن حال دائماً إذ تخللها العديد من فترات التوتر التي وصلت إلى الصدام المباشر أحياناً وقطع العلاقات تماماً.
أبرز المحطات في تاريخ العلاقات التركية- الروسية
كانت العلاقات عدائية بين الدولتين خلال عهد الدولة العثمانية ودارت بينهما عدة معارك. ولم تنس روسيا القيصريةالتي كانت تعتبر نفسها "روما الثالثة" أن العثمانيين هم من أسقطوا "روما الثانية" (القسطنطينية) عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية.
ومع انتهاء عهد الدولة العثمانية وقيام الجمهورية التركية، وفي الطرف الآخر انتهاء الحكم القيصري على يد البلاشفة أخذت العلاقات تتحسن تدريجياً ووقع البلدان معاهدة "الصداقة والحياد" عام 1925
وشهدت الفترة من 1945 إلى 1952تدهورا شديدا في العلاقات بين البلدين. بعد خروج روسيا منتصرة من الحرب العالمية الثانية وبروزها على الساحة كقوة عظمى تعد جارة لتركيا وتهدد استقرارها. وقامت روسيا بإلغاء معاهدة الصداقة والحياد مع تركيا وطالبتها بإعادة منطقتي قارص وأردهان شمال شرقي تركيا، كانت قد تخلت عنهما بموجب الاتفاقية المذكورة. كما طالبت روسيا بالحصول على قواعد عسكرية بمنطقة المضائق. ومع انضمام تركيا إلى حلف الناتو عام 1952 ازدادت حدة التوتر بين البلدين. إذ كان كل بلد يرى الآخر تهديدا لأمنها القومي.
عقب تفكك الاتحاد السوفيتي سارعت تركيا للاعتراف بروسيا الاتحادية وأجرت العديد من الزيارات الرسمية المتبادلة على مستوى الوزراء توجت بزيارة لرئيس الوزراء آنذاك سليمان دميرال إلى موسكو وقع خلالها مع الرئيس الروسي بوريس يلسن معاهدة "مبادئ العلاقات بين الجمهورية التركية والاتحاد الروسي" عام 1992. وكانت تلك المعاهدة بمثابة فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
في نهاية التسعينيات دخلت علاقات البلدين مرحلة جديدة من التوتر بسبب تباين مواقف البلدين تجاه القضايا الإقليمية وخاصة النزاع المسلح بين أذربيجان وأرمينيا عام 1999 بسبب احتلال الأخيرة أراضي تابعة لأذربيجان. إذ دعمت روسيا أرمينيا بينما أعلنت تركيا دعمها الواضح لأذربيجان ومازالت حتى اليوم. كذلك دعمت تركيا تدخل الناتو في البوسنة والهرسك لوقف الانتهاكات الصربية في حق مسلمي البوسنة بينما رفضت روسيا هذا التدخل.
كانت القضيتان الشيشانية والكردية من أهم العوامل التي أدت إلى زيادة حدة التوتر بين البلدين. فقد شنت روسيا هجمات عسكرية على المقاتلين والمدنيين الشيشان ما أدى إلى قوع ضحايا كثيرين من المدنيين الأمر الذي أدى إلى ردة فعل غاضبة من تركيا على المستويين الحكومي والشعبي وخرجت مظاهرات غاضبة في شوارع تركيا تندد بالعدوان الروسي. واتهمت روسيا أنقرة بتقديم دعم للمقاتلين الشيشان.
على الجانب الآخر اتهمت أنقرة موسكو بالتسامح مع تنظيم بي كا كا الإرهابي.
ومع أن روسيا كانت قد باعت لتركيا أسلحة لاستخدامها في حربها ضد تنظيم بي كا كا الإرهابي في وقت امتنع فيه الغرب عن تزويدها بتلك الأسلحة، إلا أنها لم تتردد في استخدام ورقة بي كا كا كأداة ضغط ضد تركيا ردا على الموقف التركي المؤيد للشيشان.
وكانت أزمة صفقة صواريخ إس 300 بين روسيا وحكومة الشطر الرومي من جزير ة قبرص من أكثر الأسباب التي أدت إلى حدوث أزمة بين موسكو وأنقرة كادت تتحول إلى صدام عسكري، حتى تدلت الولايات المتحدة محاولة تهدئة الوضع ومنع تحوله إلى صدام عسكري يبن تركيا واليونان التي لن تترد عن الوقوف إلى جانب قبرص الرومية ما يعني صداما عسكريا
بين بلدين عضوين في الناتو. وبالفعل أقنعت واشنطن اليونان بالضغط على حكومة قبرص الرومية لنشر الصواريخ في جزيرة كيريت بدلاً من الشطر الرومي لقبرص.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 1998 أصدر البرلمان الروسي قراراً يقضي بالموافقة على منح حق اللجوء السياسي لعبد الله أوجلان زعيم تنظيم بي كا كا الإرهابي والمطلوب في تركيا. فهددت تركيا بتعليق جميع المشاريع المشتركة مع روسيا حال تنفيذ هذا القرار. ولم تنته الأزمة إلى أن تم القبض على أوجلان من قبل المخابرات التركية عام 1999.
نرى أن العلاقات تطورت بشكل متسارع منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي إلى اللحظة التي تم فيها إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر 2015.
وخلال الفترة التي سبقت إسقاط الطائرة، اقتربت تركيا وروسيا من بعضهما وتمكنتا من ترقية علاقاتهما إلى "شراكة إستراتيجية في القرن الجديد".
ومع ذلك، فإن تصاعد الخلافات بين البلدين حول الشرق الأوسط، وخاصة ما يسمى "أزمة الطائرة"، كان له عواقب سلبية مباشرة على العلاقات التي تطورت على مدار عقدين.
فالخلافات المتزايدة والمنافسة وانعدام الأمن في المنطقة قللا من فرص حدوث أي تحسن في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية.
وفي الوقت نفسه، أدت التوترات المتزايدة بين الغرب وروسيا إلى تقويض التوازن الإقليمي الهش أساسا، وبدت أنقرة عالقة في المنتصف بين هذا وذاك.
لكن العلاقات الثنائية التركية الروسية ما فتئت تتطور بتسارع مستمر منذ أن بعث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان برسالة الى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معرباً فيها عن حزنه لإسقاط الطائرة.
وبعد أقل من شهر، قام الرئيس أردوغان بزيارته الأولى إلى الخارج في أعقاب المحاولة الانقلابية الفاشلة تموز/ يوليو 2016 إلى سانت بطرسبرغ في 9 أغسطس/آب 2016. وكانت تلك الزيارة علامة بارزة في العلاقات الثنائية بين البلدين بعد توقف دام تسعة أشهر تقريبا.
وعقب اجتماعهما في سان بطرسبرغ، سلط الزعيمان الضوء على الحوار الجوهري والبناء حول كافة القضايا ذات الاهتمام المشترك وحددا خريطة طريق لإعادة العلاقات إلى مستوى ما قبل حادث الطائرة.
واتفق الزعيمان على ضرورة حل المشاكل الإقليمية من خلال مبادرات مشتركة.
وفي ختام الاجتماع أعرب الزعيمان عن ارتياحهما للمستوى الحالي للتجارة البينية. كما اتفق بوتين وأردوغان على مواصلة رفع الحواجز التجارية والاستثمارية بين بلديهما.
ومن المعول أن يكون مشروعا مد خط أنابيب الغاز الطبيعي (السيل التركي) ومحطة (أقويو) للطاقة النووية بمثابة قوة الدفع لتلك الجهود.
كما تعد صفقة شراء منظومة صواريخ S-400، دفعة قوية للعلاقات رغم الانتقادات والقلق الذي عبر عنه حلفاء تركيا الغربيون.
* سوريا والعراق:
وفي نهاية الاجتماع، تم إعلان أن الطرفين ناقشا قضايا إقليمية، بما فيها العراق وسوريا، ووافقا على الحفاظ على سلامة أراضي البلدين.
ويعد الوضع في سوريا وفي شمال العراق حاليا أهم القضايا الأمنية للسياسة الخارجية التركية، ليس فقط بسبب عواقبها المباشرة على العلاقات الدبلوماسية والأمنية لأنقرة مع الغرب وروسيا، ولكن أيضا بسبب آثارها على الموقف الإقليمي التركي وكذلك التطورات المحلية.
وعملت روسيا وتركيا جنبا إلى جنب مع إيران على إنشاء مناطق لتخفيف التوتر في سوريا. وساعدت هذه المناطق كثيراً على الحد من القتال.
ويشير تدفق الأحداث ومبادرات أنقرة الدبلوماسية إلى أن المسؤولين الأتراك يحاولون إبقاء إيران وروسيا على الجانب التركي في سوريا.
وعموما، فإن هذه الشبكة المعقدة من العلاقات تثبت اختبارا صعبا للسياسة الخارجية التركية، وتدفعها إلى تحديث سياساتها باستمرار وفقا للظروف المتغيرة باستمرار.