بينما كانت العلاقات التركية – الأمريكية تتجه نحو الهدوء واللجوء إلى تخفيف التوترات السابقة وانتهاج آلية مشتركة لمعالجة الخلافات، كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يحضر مفاجأة للعالم، وأيضاً لخصومه في الداخل، فقد أقال وزير خارجيته ريكس تيلرسون ورشح المتطرف مايك بومبيو، مدير السي آي إيه، مكانه.
جاء هذا التطور، الذي فاجأ أنقرة كما فاجأ الكثير من دول العالم من حيث التوقيت، بعد أيام قليلة من إعلان وزير خارجيتها، مولود تشاوش أوغلو، عن اتفاق توصلت إليه مع واشنطن حول مصير منبج ومناطق شرقي نهر الفرات شمال سوريا، وقبل أيام من لقاء مجدول لتشاوش أغلو مع تيلرسون، ليضعا خارطة طريق لتنفيذ الاتفاق.
هذا الاتفاق الذي لم تتضح معالمه بعد بات في خطر الانهيار، أو التضرر على الأقل، بعد الإعلان عن تأجيل اللقاء بين وزيري خارجية البلدين، كواحدة من تأثيرات عاصفة التغيير التي هبت من البيت الأبيض.
الدكتور سعيد الحاج، الخبير بالشأن التركي، يرى أن إقالة تيلرسون وترشيح بومبيو خلفاً له في وزارة الخارجية الأمريكية ليس خبراً جيداً لتركيا، فهي تحمل مخاطر هدم الاتفاقات والتفاهمات الأولية التي استطاعت بلورتها مع الولايات المتحدة بعد سلسلة من التوترات حول منبج ومجمل القضية السورية.
لكن التغيير في واشنطن لم يقتصر على الخارجية، فقد شمل وكالة الاستخبارات المركزية سي آي إيه، التي كان يديرها بومبيو، حيث ستحل مساعدته جينا هاسبل، التي توصف في واشنطن بملكة التعذيب، محله على رأس الاستخبارات المركزية، وفي حال إقرار مجلس الشيوخ تعديلات ترامب على إدارته فإن انقلاباً قد يطرأ على السياسة الأمريكية الخارجية.
قام بومبيو بأول زيارة له كرئيس للسي آي إيه إلى تركيا، لكن هذا لا يدل إطلاقاً على صداقته لها أو نظرته الإيجابية تجاهها، فقد سبق أن أطلق تصريحات معادية ضد تركيا عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة منتصف تموز/ يوليو 2016
ويعرف عن بومبيو أيضا معارضته القوية لروسيا وإيران، وإصداره تصريحات متشددة ضد موسكو وطهران والاتفاق النووي.
في ظل التعيينات الجديدة في واشنطن، هل سيكون مصير التفاهمات التي توصلت إليها تركيا والولايات المتحدة بشأن منبج الإلغاء والعودة إلى التوترات المتصاعدة، أم أنه لا تزال الفرصة مواتية لعقد صفقة بين الطرفين؟ وما هي خيارات تركيا في مواجهة السيناريو الأسوأ؟
لا تأثير جذري:
يؤكد الدكتور سعيد الحاج، في حديث لـ"ديلي صباح" أن تيلرسون كان يمثل حالة توازن نسبية في الإدارة الامريكية في مواجهة ترامب والسي آي إيه، وبومبيو يعتبر من الصقور ووجهة نظره في تركيا غير إيجابية، مضيفاً: "لكن لا أعتقد أن ذلك سيؤثر في العلاقات الثنائية البينية والملف السوري بشكل جذري، نعم.. التفاهمات حول منبج قد تتأجل نوعاً ما، فقد أعلن عن تأجيل اللقاء الذي كان مقرراً في 19 مارس".
وتوقع الحاج إمكانية توصل الطرفين رغم ذلك إلى اتفاق يخرج بموجبه إرهابيو ي ب ك من منبج، قائلاً: "رغم المماطلة والتأجيل، قوات سوريا الديمقراطية (المظلة التي يستخدمها تنظيم ي ب ك لأنشطته الإرهابية) ستُخرج من منبج، ويبقى أن التفاوض والتفاهم التركي الأمريكي سيحدد كيفية إدارة منبج بعد ذلك".
وبناء على ذلك، لا يرى الحاج في إقالة تيلرسون وتعيين بومبيو بشكل عام ما يمكن أن يقلق تركيا في سوريا، وحتى فيما يتعلق بشرق الفرات، يقول الخبير في الشأن التركي: "لم تكن لتكون هناك مواجهة عسكرية مباشرة بين الطرفين، بل كان سيكون هناك صراع دبلوماسي سياسي على المدى البعيد، وبالتالي لا يوجد ما يمكن أن يقلق تركيا في مجمل الملف السوري".
ويستدرك بالقول: "ما يمكن أن يقلق تركيا هو الملفات ذات الاهتمام المشترك التي قد يتبدل فيها الموقف الأمريكي، مثل إيران والاتفاق النووي والأزمة الخليجية وحصار قطر والقضية الفلسطينية ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، بعض هذه القضايا لتركيا فيها تأثير أو تأثير".
المساحات الرمادية:
وحول خياراتها في التعامل مع المعطيات الجديدة، أكد الحاج أن "تركيا تتبع سياسة تقليع الشوك بنفسها، وتعتمد على نفسها وتحاول اللعب على المساحات الرمادية ومساحات الخلاف الأمريكية الروسية، ولا أعتقد أن لديها خيارات أخرى سوى ذلك".
من جهته، اعتبر الدكتور باسل الحاج جاسم، الباحث في الشؤون التركية، أن اللقاء بين مولود تشاوش أوغلو ونظيره الأميركي المقال تيلرسون الذي كان مقرراً في 19 من الشهر الجاري كان من المنتظر أن يضع النقاط على الحروف في تباينات البلدين في كثير من الملفات لا سيما شمال سوريا، مضيفاً: "من الواضح أنه بعد إقالة تيلرسون ستبدأ المحادثات حول هذه الموضوع من الصفر".
يقول الحاج جاسم، في حديث لـ"ديلي صباح"، إنه "يصعب الاعتقاد بإمكانية حدوث أي اتفاق يخرج بموجبه الامتداد السوري لحزب لعمال الكردستاني (بي كا كا الإرهابي) من منبج، فواشنطن منذ طرد داعش أكدت أنه تم انسحاب هؤلاء المسلحين من البلدة، لكن تركيا وعموم السوريين يعرفون عدم صحة معلومات واشنطن وهي تستمر في تضليل حليفتها تركيا منذ بدء عملية منبج".
خيار عفرين:
واستبعد الباحث في الشؤون التركية حصول صفقة بين أنقرة وواشنطن في سوريا بوجه عام، قائلاً: "من الصعب توقع صفقة دائمة في سوريا تكون مرضية لكل من تركيا والولايات المتحدة، لكن العلاقة ستأخذ المزيد من المد والجزر في هذا الملف تحديداً، إلا انها لن تصل لحد القطيعة، فواشنطن لا يمكنها الاستغناء عن دور تركيا في المنطقة إذا كانت جادة فعلاً في مواجهة إيران".
وحول الخيارات التركية بشأن منبج في ظل استبعاد التوصل لصفقة، اعتبر الحاج جاسم أنه "لا خيار أمام أنقرة لإعادة منبج إلى أهلها العرب سوى خيار عفرين وعبر عملية عسكرية" .
واستطرد بالقول: "تقع منبج في قلب المنطقة التي يريد بعض أكراد سوريا إقامة حكم ذاتي فيها مبدئياً، وهذا ما يفسر الإصرار التركي على استعادتها لأهلها العرب"، وختم بالقول: "منبج تضع أنقرة اليوم أمام امتحاني الإرادة والعلاقة بواشنطن".