صراع المعارضة التركية الجديد يُعبر عن واقعها
- محمود علوش , اسطنبول
- Dec 25, 2023
على غرار قدرتها في جذب الاهتمام منذ انشقاقها عن حزب "الحركة القومية" وتأسيس حزبها الجديد، استطاعت ميرال أكشنار زعيمة حزب "الجيد" تسليط الأضواء عليها مرّة أخرى بإعلانها رفض الدخول في تحالف مع حزب "الشعب الجمهوري" في الانتخابات المحلية المقررة في الحادي والثلاثين من مارس آذار المقبل وخوض المنافسة الانتخابية بشكل مستقل.
ورغم أن هذه الخطوة كانت متوقعة على نطاق واسع منذ أن أعلنت أكشنار خروجها من الطاولة السداسية بعد الهزيمة الكبيرة للمعارضة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو الماضي، إلآّ أنها كانت مفاجأة من حيث تحول الصراع المزمن بين أكشنار وحزب "الشعب الجمهوري" من صراع إرادات داخل جبهة المعارضة إلى عداء مُعلن بين أكبر مكونين لها. وهذا العداء، الذي يأتي في وقت حرج للغاية بالنسبة للمعارضة التي ستُحدد انتخابات مارس ما إذا كانت قادرة على الحفاظ على تأثيرها المتبقي في السياسة الداخلية التركية، وإن يعمل على إرباك جبهة المعارضة ويقوض من فرص حزب "الشعب الجمهوري" للاحتفاظ بالسيطرة على البلديات الحضرية الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة، إلآّ أنه يُعبر بشكل أكثر وضوحاً عن الواقع المزري للمعارضة.
لقد تمكن التحالف، الذي تشكل بين حزبي "الجيد" و"الشعب الجمهوري" بعد منتصف العقد الماضي، من قيادة المعارضة إلى تحقيق فوز كبير في الانتخابات المحلية التي جرت عام 2019 قبل أن يتطور هذا التحالف في عام 2022 إلى ائتلاف واسع انضم إليه لاحقاً أربعة أحزاب معارضة أخرى وحصل على دعم حزب "الشعوب الديمقراطي" في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لكنّه سُرعان ما ظهر داخله صراع كبير بين أكشنار وزعيم حزب "الشعب الجمهوري" السابق كمال قليجدار أوغلو. وفي حين أن السبب الظاهر لأزمة التحالف السداسي وقتها تمثل باعتراض أكشنار على تبني الأحزاب الخمسة الأخرى في التحالف ترشيح قليجدار أوغلو للرئاسة، إلآّ أنه يرجع بشكل أعمق إلى ثلاث مُشكلات كبيرة أساسية داخل جبهة المعارضة عموماً. الأولى تتمثل بصراع الإرادات بين أكشنار وقليجدار أوغلو وتعاطي الأخير مع حزب "الجيد" بوصفه الشريك الصغير، والثانية تتمثل بصراع الهويات بين مختلف مكونات الطاولة السداسية وحزب "الشعوب الديمقراطي"، والثالثة تتمثل بذوبان هوية حزب "الجيد" كحزب يميني قومي محافظ مع الهوية الجديدة المتنافضة التي شكّلها قليجدار أوغلو لحزب "الشعب الجمهوري"، والتي سعت لاستقطاب الأحزاب المحافظة المعارضة والأحزاب اليسارية الكردية على حساب الهوية الكمالية والعلمانية للحزب.
إن تفوق منطق الهويات على العلاقة بين أحزاب المعارضة وعلى السياسة الداخلية التركية عموماً جعل من الصعب على المعارضة تطوير العلاقة بينها من التوافق على هدف مشترك يتمثل بإنهاء حكم الرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم إلى تشكيل هوية سياسية جامعة قادرة على التفوق على صراع الهويات المتناقضة. وكما أن هذه المعضلة قوضت قدرة المعارضة على تقديم عرض قوي في انتخابات مايو السابقة، فإنها لا تزال تعمل بفعالية كبيرة كعامل مُدمر للعلاقة بين أكبر مكونين لها. حتى في الوقت الذي ساد فيه اعتقاد بأن جانباً كبيراً من هذه المُعضلة سيُعالج بعد الإطاحة بقليجدار أوغلو من زعامة حزب "الشعب الجمهوري" بالنظر إلى دوره المفسد للعلاقة مع أكشنار وللوحدة داخل جبهة المعارضة، فإن هذا الاعتقاد بدا أقل تأثيراً في ديناميكية العلاقة بين أكشنار وحزب "الشعب الجمهوري" في ظل زعيمه الجديد أوزغور أوزيل لأن صراع الهويات بين الحزبين أصبح طاغياً بشكل أكبر، والسبب ببساطة أن أكنشار، التي لم تعد تؤمن بنجاعة تكرار التحالف، تولي في الوقت الراهن أهمية لاستعادة الهوية الأصلية لحزب "الجيد" على المكاسب الانتخابية التي تتطلع إليها في انتخابات مارس. والافتراض السائد أن هذه المحاولة ستُمكن أكشنار على استقطاب الأصوات القومية التي خسرتها بفعل تحالفها مع حزب "الشعب الجمهوري"، وستُساعدها على إعادة تموضع حزبها في السياسة الداخلية كطريق ثالث للثنائية الحزبية التقليدية التي تُهيمن على الحياة السياسية التركية منذ أكثر من عقدين والمتمثلة بحزبي "العدالة والتنمية" الحاكم و"الشعب الجمهوري".
علاوة على ذلك، فإن مساعي أكشنار لإعادة تصويب مسار حزبها في السياسة الداخلية، سلطت الضوء على الصورة الأكثر سوداية في العلاقة بين أحزاب المعارضة وهي الافتقار إلى التعاطي الأخلاقي فيما بينها. تزعم أكشنار، وهي مُحقة في ذلك، أن موجة الاستقالات الحالية التي تعصف بحزبها بسبب رفض التحالف مع حزب "الشعب الجمهوري" في الانتخابات المحلية هي عملية موجّهة ضد حزب "الجيد". وعلى الرغم من تجنّبها اتّهام طرف بعينه في قيادة هذه العملية، إلآّ أن تصويبها الشديد على حزب "الشعب الجمهوري" يحمل في طياته اتهاماً ضمنياً له بقيادة هذه العملية في محاولة لإخضاعها مُجدداً على غرار ما فعله قليجدار أوغلو معها في انتخابات مايو عندما أطلق العنان لحملة ضغط منظمة على أكشنار داخل حزبها للعودة إلى الطاولة السداسية. كما أن هناك تجربة أخرى قريبة تدل على الممارسة السياسية التي تفتقر إلى الأخلاق بين أحزاب المعارضة. عندما أصر زعيم حزب "البلد" مُحرم إينجه على مواصلة السباق الرئاسي في انتخابات مايو، تعرض لحملة تشويه عبر تسريب فيديو لمزاعم فضيحة جنسية له أجبره قبل يومين فقط من الانتخابات على الانسحاب.
يًضاف الصراع الجديد بين أكشنار وحزب "الشعب الجمهوري" إلى قائمة طويلة من أزمة فقدان الثقة بين مكونات جبهة المعارضة، كما يُعبر عن واقعها الحقيقي كجبهة لا تفتقر فحسب إلى المشروع السياسي الواضح، بل لا تتردد في استخدام شتى أنواع الوسائل المشروعة والغير مشروعة لإخضاع بعضها البعض. إن تركيا، التي بحاجة إلى معارضة قوية لتعزيز الحياة السياسية، آخر ما تحتاجه هو معارضة من هذا النوع.