قمة سوتشي تعزز التوازن التركي
- محمود علوش , اسطنبول
- Sep 07, 2023
أظهر الرئيسان رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين مرّة أخرى براعتهما في تغليب الواقعية الجيوسياسية في إدارة علاقات بلديهما. مع أن ملف الحبوب حاز على الاهتمام الأكبر من تغطية وسائل الإعلام الدولية لقمة الرئيسين في سوتشي هذا الأسبوع، إلآّ أن النتائج التي خرجت بها تتجاوز في الواقع هذا الملف وتعمل على تعزيز الإطار الذي تسير داخله العلاقات التركية الروسية منذ النصف الثاني من العقد الماضي. في الوقت الذي بدت فيه هذه العلاقات تشهد حالة من البرودة في الآونة الأخيرة وخصوصاً بعد زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى تركيا والآفاق الجديدة التي خلقتها قمة الناتو في فيلنيوس لتحسين علاقات أنقرة بالغرب، فإن قمة سوتشي أكّدت أن روسيا وتركيا ستمضيان قدماً في علاقة المصالح المتبادلة بمعزل عن التحديات الجديدة التي تفرضها تبعات الحرب الروسية الأوكرانية وتحولات السياسة الخارجية التركية مع الغرب.
إن الميزة التي تتسم بها دبلوماسية القادة بين أردوغان وبوتين، والتي تتمثل في التركيز على فوائد التعاون في المجالات التي تتداخل فيها مصالح تركيا وروسيا بشكل وثيق وإيجاد آلية لإدارة الخلافات والتباينات التي تظهر بين الفينة والأخرى، لا تزال تُشكل ضمانة أساسية لاستقرار العلاقات التركية الروسية. في قضية الحبوب، حالت التعقيدات المتزايدة في خروج قمة سوتشي باتفاق يُعيد إحياء اتفاقية الممر الآمن عبر البحر الأسود. كما أن تركيا تزداد قلقاً من مخاطر عسكرة الوضع في منطقة البحر الأسود. مع ذلك، وجد أردوغان وبوتين وسيلة للحد من أضرار انهيار الاتفاقية على التعاون بينهما في البحر الأسود من خلال اتخاذ خطوات ملموسة لتفعيل مشروع التعاون الثنائي في تصدير الحبوب الروسية إلى دول إفريقية. لن تُنهي هذه المبادرة بأي حال مخاطر التوتر في البحر الأسود كما لن تكون بديلآً عن اتفاقية الحبوب، لكنّها تُساعد في المستقبل المنظور في تحفيز روسيا على تجنب أي أعمال من شأنها زيادة المخاطر في البحر الأسود. كما يُمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلى توفير أرضية مناسبة لمفاوضات بناءة على نطاق أوسع من أجل إعادة إحياء ممر الحبوب.
كان من المثير للاهتمام في قمة سوتشي التوافق بين أردوغان وبوتين على المضي في مشاريع التعاون الكبيرة بين البلدين في مجالات الطاقة ورفع مستوى التبادل التجاري إلى هدف مئة مليار دولار أمريكي. بالنظر إلى أن الطرفين يستفيدان بشكل متكافئ من هذا التعاون، فإن مجالي الطاقة والاقتصاد لا يزالا يعملان كمحفّز قوي لاستقرار العلاقات التركية الروسية. يُمكن النظر إلى هذه المجالات كورقة ائتمان قوية لحماية هذه العلاقات من تقلبات الاضطرابات الجيوسياسية المحيطة بها. علاوة على ذلك، فإن إظهار بوتين احتراماً لمصالح تركيا في سوريا وليبيا، يُشير أيضاً إلى أن الشراكة التعاونية بين البلدين في هذه المناطق تنمو بشكل متزايد وتعمل على خلق واقع جيوسياسي جديد ملائم لكليهما. كما أن مشروع التعاون التركي الروسي في مجال تصدير الحبوب إلى دول إفريقية يعكس كذلك مساعي أردوغان وبوتين لموائمة المصالح التركية والروسية في إفريقيا بقدر أكبر في الوقت الذي تعمل فيه موسكو وأنقرة على تعزيز نفوذهما في القارة الإفريقية مع تراجع الدور الفرنسي.
سيكون من المهم مراقبة بعض المسارات المهمة في العلاقات التركية الروسية بعد قمة سوتشي لتقدير نتائجها وتأثيرها. على عكس الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على الوضع في البحر الأسود، والتي ستظل على الأرجح مصدر تهديد للشراكة بين أنقرة وموسكو، فإن المجالات الأخرى مثل التعاون في تجارة الطاقة والاقتصاد وسوريا ستحصل على جرعة دعم إضافية في ضوء قمة سوتشي. في الملف السوري تحديداً، والذي يُشكل أولوية قصوى في السياسة الخارجية التركية، قد يكون لموسكو دور مؤثر في تفعيل مسار الحوار التركي السوري الذي شهد في الآونة الأخيرة حالة من الجمود بفعل الشروط التي تطرحها دمشق والتي تبدو غير واقعية بشأن الانسحاب العسكري التركي من سوريا. قبيل قمة سوتشي، عكست الدبلوماسية النشطة التي قام بها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في موسكو وطهران وبغداد توجهاً ثلاثياً تركياً روسياً إيرانياً لتنشيط التعاون في مواجهة المخاطر المشتركة لا سيما في ملف مكافحة الإرهاب.
سيشارك أردوغان هذا الشهر في قمة مجموعة العشرين التي ستعقد في الهند، ومن المحتمل أن يعقد قمة مع نظيره الأمريكي جو بادين. لذلك، لا ينبغي إغفال أهمية قمة سوتشي ومخرجاتها من حيث التوقيت والمضمون لأنها ستكون فرصة أيضا لتذكير الولايات المتحدة بأن رغبة تركيا في تحسين العلاقات مع الغرب لا تعني أنها ستتخلى عن مصالحها مع روسيا والعكس. من المؤكد أن الغرب يتطلع إلى انخراط أنقرة في جهوده لعزل موسكو بعد حربها على أوكرانيا. لكن نهج أنقرة المتوازن ودور الوساطة الذي تقوم به، أثبتا أنهما مصلحة لأوكرانيا والغرب والعالم بأسره عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على أفق للسلام والحد من تداعيات هذه الحرب على الأمن الغذائي والاستقرار العالميين.