الشراكات مع تركيا على أجندة الشرق الأوسط

حمل شهر يوليو/تموز الماضي المزيد من التفاعلات القوية بين تركيا ودول الشرق الأوسط.

فقد أعادت القاهرة وأنقرة تبادل السفراء بينهما بعد أزمة امتدت لنحو عقد وتعكفان على التحضير لزيارة مرتقبة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى تركيا. كما أجرى الرئيس رجب طيب أردوغان زيارة مهمة إلى منطقة الخليج وأبرم هناك العديد من الاتفاقيات التي تدفع العلاقات التركية الخليجية الجديدة إلى مستوى الشراكات الاستراتيجية.

وكان من المقرر أن يُجري رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو زيارة إلى أنقرة في الشهر نفسه، إنما تم تأجيلها إلى موعد لاحق بسبب مرض نتنياهو. بالتوازي مع ذلك، كشف رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني عن زيارة قريبة للرئيس أردوغان إلى العراق.

يعكس الاهتمام المتزايد للقوى الفاعلة في المنطقة بتعزيز علاقاتها مع تركيا مكانتها الصاعدة كقوة مؤثرة في محيطها الإقليمي.

منذ الاضطرابات التي عصفت بالمنطقة العربية بعد الربيع العربي الذي انطلق عام 2011، تحوّلت تركيا إلى فاعل مؤثر في الكثير من قضايا المنطقة. حقيقة أن هذه الاضطرابات تركت فراغاً أمنياً خطيراً في دول مجاورة لتركيا مثل سوريا والعراق سعت تنظيمات إرهابية بشقيها الراديكالي والانفصالي إلى توظيفه من أجل مشاريعها، ولم ترك ذلك لأنقرة خياراً سوى الانخراط العسكري في هذه الصراعات للحد من تداعياتها على أمنها القومي. في المقابل، شكّلت الأزمة الخليجية التي اندلعت عام 2017 منعطفاً في دور تركيا في منطقة الخليج. كما أن محاولة الضابط المتقاعد خليفة حفتر الإطاحة بالحكومة الشرعية في ليبيا عام 2019، والتي كانت جزءاً من مشروع انخرطت فيه قوى إقليمية ودولية لإضعاف تركيا في معادلة الصراع الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط، دفعت أنقرة إلى الانخراط في دعم الحكومة الشرعية في ليبيا حينها، وهو انخراط واصلته مع الحكومة الأخرى التي تشكلت في هذا البلد بموجب اتفاق سلام رعته الأمم المتحدة. مع أن انخراط تركيا النشط في كل هذه القضايا تسبب بتوتر علاقاتها مع بعض القوى الفاعلة، إلآّ أنه في المقابل كرس دورها الجديد كقوة إقليمية لا يُمكن تجاهل مصالحها في المنطقة.

بالقدر الذي ساعد فيه تحول تركيا منذ عامين لإعادة إصلاح علاقاتها مع دول المنطقة في نقل هذه العلاقات إلى مستوى جديد، فإن الإقرار بدورها ومصالحها في المنطقة إلى جانب النموذج القوي الذي قدّمته في تعاملاتها مع حلفائها كشريك قوي وموثوق لم يتردد في تقديم شتى أنواع الدعم لهم، عملا على نحو كبير في تغيير نظرة دول المنطقة عموماً لها. في الخليج، تنظر المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة اليوم إلى العلاقات الجديدة مع تركيا على أنها حيوية في استراتيجية البلدين للعب دور أكثر نشاطاً في القضايا الإقليمية وأيضاً في إطار استراتيجية تنويع شراكاتهما الخارجية كوسيلة تحوط من تراجع الانخراط الأمريكي في قضايا المنطقة وأمن الخليج. وفي القاهرة أيضاً، إلى جانب الأهمية التي توليها للعلاقات الاقتصادية والتجارية مع تركيا، وصلت مصر إلى قناعة بأهمية التعاون مع أنقرة لدفع مساعي السلام في ليبيا وتحويل صراع شرق البحر المتوسط إلى فرصة للتعاون الإقليمي. وبالمثل، تولي إسرائيل أهمية متزايدة لموقف تركيا الجيوسياسي في تجارة الطاقة. أما العراق، فإنه بات أكثر إدراكاً لأهمية التعاون مع تركيا في المجالات الحيوية مثل الحرب على الإرهاب وقضايا المياه.

في ظل عملية إعادة التشكيل التي يمر بها النظام الإقليمي منذ عامين، تبرز الشراكات التي تسعى دول المنطقة لإقامتها مع تركيا كعامل استقرار وتوازن إقليمي. من المميزات المهمة التي تُقدمها هذه الشراكات مع تركيا أنها تقوم على مبدأ رابح ـ رابح، وهو مبدأ يترسخ بقوة في تعاملات تركيا مع حلفائها وشركائها في العالم. يبدو من البديهي أن تتطلع دول المنطقة لهذه الشراكات كونها تعمل في جانب على خلق آفاق لتحقيق الاستقرار الإقليمي الذي تشتد الحاجة له في منطقة مضطربة تُريد التركيز على التحديات الاقتصادية والجيوسياسية المستجدة، وفي جانب آخر تُتيح لها فرصة للاستفادة من المزايا الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية للتفاعل القوي مع تركيا كقوة مؤثرة في السياقين الإقليمي والدولي. من الواضح أن هذه الاندفاعة الشرق أوسطية نحو تركيا ازدادت بشكل أكبر بعد فوز الرئيس رجب طيب أردوغان بولاية رئاسية ثالثة لأن هذا الفوز أظهر أن دور تركيا في المنطقة سيتواصل وسيُصبح أكثر نشاطاً بالتوازي مع ديناميكية جديدة ترتكز على تصفير المشكلات.

إن التفاعلات القوية بين تركيا والقوى المؤثرة في الشرق الأوسط لن تنحصر فوائدها على المنافع الاقتصادية والجيوسياسية للمنطقة عموماً، بل تبدو ضرورية لتحقيق التوازن في النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكل. علاوة على ذلك، فإن العصر الجديد من التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى، الذي يؤثر بشكل قوي على دول المنطقة وسياساتها الخارجية وعلاقاتها بالقوى الكبرى يفرض على أنقرة والعواصم الإقليمية المؤثرة مواءمة سياساتها الإقليمية ومصالحها الاقتصادية والجيوسياسية في إطار أوسع.

لقد وضع أردوغان شعار "قرن تركيا" على رأس أجندته في السنوات الخمس المقبلة. وتطبيق هذا الشعار لن يقتصر على نظرة تركيا إلى نفسها كقوة اقتصادية وعسكرية صاعدة وإلى علاقاتها بالقوى الكبرى فحسب، بل يشمل أيضاً نظرتها إلى دورها الجديد في الشرق الأوسط.

Bu web sitesinde çerezler kullanılmaktadır.

İnternet sitemizin düzgün çalışması, kişiselleştirilmiş reklam deneyimi, internet sitemizi optimize edebilmemiz, ziyaret tercihlerinizi hatırlayabilmemiz için veri politikasındaki amaçlarla sınırlı ve mevzuata uygun şekilde çerez konumlandırmaktayız.

"Tamam" ı tıklayarak, çerezlerin yerleştirilmesine izin vermektesiniz.