لماذا الدبلوماسية التركية مع روسيا مهمة؟
- محمود علوش , إسطنبول
- Jul 26, 2023
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل نحو عام ونصف، أقدمت تركيا على ثلاث مبادرات مهمة. الأولى تفعيل معاهدة مونترو التي ساعدت في الحد بشكل معقول من النشاط العسكري المرتبط بالحرب في منطقة البحر الأسود، والثانية تقديم نفسها كوسيط موثوق بين موسكو وكييف لإطلاق مفاوضات سلام، والثالثة التوسط في إبرام اتفاقية تصدير الحبوب عبر الممر الآمن في البحر الأسود.
حقيقة أن هذه المبادرات كان لها أثر إيجابي عموماً على مسار الصراع، أظهرت أهمية الدبلوماسية التركية النشطة مع موسكو وكييف. فمن جانب، ساعدت هذه الدبلوماسية تركيا في تعزيز حيادها الإيجابي في الحرب، وتقليص عسكرة الوضع في البحر الأسود. ومن جانب آخر، كان لها تأثير إيجابي على الأمن الغذائي العالمي من خلال رعاية اتفاقية إنشاء الممر الآمن لتصدير الحبوب عبر البحر الأسود. مع أنّ هذه المبادرات صُممت في البداية لمساعدة تركيا في الحد من تداعيات الحرب عليها وعلى علاقاتها بكل من روسيا وأوكرانيا والغرب، إلآّ أنها كانت مصلحة لجميع أطراف الصراع والعالم أيضاً.
بفضل علاقة العمل الوثيقة التي أقامها الرئيسان رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين منذ سنوات، أضحت تركيا الدولة الوحيدة في حلف الناتو القادرة على الإبقاء على قنوات التواصل مع روسيا بشكل نشط، وهو ما ساعدها في إقناع موسكو بإبرام اتفاقية الحبوب ثم تمديدها لثلاث مرات. تُظهر الأزمة التي أعقبت رفض موسكو تمديد هذه الاتفاقية مرّة أخرة أهمية الدبلوماسية التركية كسبيل واحد لإعادة إحياء هذه المبادرة والحفاظ عليها كمكسب دبلوماسي قوي وحيد تم تحقيقه في هذه الحرب حتى الآن. من الملاحظ في أزمة الاتفاقية هذه المرّة أن قنوات التواصل بين أنقرة وموسكو لم تكن نشطة على غرار استحقاقات التمديد السابقة. لا يعني ذلك أن تركيا لم تعد قادرة على القيام بدورها في هذا الملف، لكنّها تعمل بشكل مستمر على توفير العوامل المساعدة لإعادة استئناف العمل بالاتفاقية. كانت أنقرة واضحة في وضع مُحددين أساسيين لإعادة مبادرة الحبوب. الأول أن أي مبادرات لمواصلة تصدير الحبوب عبر البحر الأسود بمعزل عن روسيا لن تكون مُجدية وتنطوي على مخاطر تهديد أمن الملاحة البحرية. والثاني أن موسكو مُحقة في الاشتراطات التي تضعها للعودة إلى الاتفاقية لا سيما إزالة القيود التي تُعرقل صادراتها من الحبوب والأسمدة.
لأن من بين الأولويات الرئيسية لتركيا في هذه الحرب منع تحوّل البحر الأسود إلى منطقة صراع بين القوى الكبرى، فإنها حذرة للغاية تجاه الدعوات الصادرة من كييف لحلف الناتو من أجل تأمين سلامة سفن الشحن في البحر الأسود وتحدي روسيا. لا يعكس هذا الحذر فحسب قناعة لدى أنقرة بأن مبادرات من هذا النوع لن تكون علاجاً مناسباً للأزمة، بل لأن العسكرة المتزايدة للبحر الأسود ستكون لها عواقب على أمن واستقرار هذه المنطقة الحيوية لتركيا. كان تفعيل تركيا لمعاهدة مونترو مُصمم بشكل رئيسي للحد من قدرة أطراف الصراع على توظيف البحر الأسود في الحرب. لذلك، يولي الرئيس رجب طيب أردوغان اليوم أهمية كبيرة للعمل على تجنيب البحر الأسود سيناريوهات سيئة. في بيئة مضطربة للغاية مثل تلك السائدة حالياًَ بين روسيا والغرب، ليس من السهل على بلد كتركيا لعب دور صانع السلام والحفاظ على علاقاته ومصالحه بين الطرفين عبر موازنة تتطلب الكثير من الحنكة السياسية والدبلوماسية.
في الواقع، يتمتع أردوغان بقدر كبير من هذه الحنكة، لكنّها لن تكون كافية وحدها بطبيعة الحال هذه المرّة لإعادة إحياء اتفاقية الحبوب. قبل كل شيء، على كل من روسيا وأوكرانيا والغرب التفكير في مزايا إعادة إحياء الاتفاقية وكذلك في مخاطر تصعيد الاضطرابات في البحر الأسود. من الواضح أن الناتو لا يرغب في استفزاز روسيا في البحر الأسود لتجنب خطر المواجهة العسكرية المباشرة. كما أن روسيا غير قادرة على تحمل تكاليف مثل هذه المواجهة. حتى لو لم يولي الطرفان أهمية لمزايا التعاون في مجال تصدير المنتجات الغذائية الرئيسية، فإن دور تركيا لا يزال حيوياً في منع انزلاق التوتر إلى تصعيد عسكري في البحر الأسود. علاوة على أن معاهدة مونترو تُقيد قدرة روسيا والغرب على الاستفادة من قوتهما البحرية للعمل بحرية في البحر الأسود، فإن هناك الكثير من الأسباب المهمة التي تجعل روسيا تولي أهمية لمنح فرصة للجهود التركية لإعادة إحياء اتفاقية الحبوب. يُمكن لأردوغان أن يظهر صراحة لبوتين أن استقرار البحر الأسود أمر حيوي لتركيا وحاجة لها لمواصلة نهجها الإيجابي في الصراع. كما يُمكنه إظهار استعداد تركيا للتعاون مع روسيا في تسهيل صادراتها من الحبوب والأسمدة في إطار متواز مع إعادة إحياء اتفاقية الممر الآمن.
لأن موسكو تبدو غير قادرة على انتزاع التنازلات التي تُريدها من الغرب فيما يتعلق بالحصول على إعفاءات قوية من العقوبات، فإن الحل الوسط المُمكن للخروج في هذه الأزمة يتمثل في الحصول على قدر أقل من الإعفاءات مقابل دور تركي أكبر في تسهيل صادرات روسيا من الأسمدة والحبوب. قد يكون مثل هذا الاقتراح مناسباً لموسكو ويضمن لها في جانب تحقيق أهدافها بإزالة العقبات التي تُقيد قدرتها على تصدير منتجاتها، ويُساعدها في جانب آخر على الحفاظ على علاقاتها مع دول الجنوب العالمي التي ستكون المتضرر الأكبر من إطالة أمد تجميد اتفاقية الحبوب لفترة أطول. بالنظر إلى أن إعادة إحياء اتفاقية الحبوب يُشكل مصلحة لجميع الأطراف، فإن قدرة الدبلوماسية التركية على إعادة تنشيط هذه المبادرة لا تزال قوية إذا ما توفرت النوايا في موسكو والغرب لذلك.