هل تدخل علاقات تركيا بالغرب حقبة جديدة؟
- محمود علوش , إسطنبول
- Jul 21, 2023
من يتابع السياسة الخارجية القوية التي ينتهجها أردوغان مع الغرب في السنوات الأخيرة ينبغي أن لا يتفاجأ بالصفقة الجديدة التي أبرمها مع الغربيين في فينليوس. لما يقرب من عام، ظلّت أنقرة معارضة لضم فنلندا والسويد إلى الحلف الناتو بسبب أمور عديدة من بينها تساهل البلدين مع نشاط تنظيمات إرهابية على أراضيهما وحظر بعض الدول الغربية واردات الأسلحة إلى تركيا. كانت قضية توسيع الناتو بمثابة ورقة ضغط كبيرة لم يتردد أردوغان في استثمارها إلى أقصى الحدود لإجبار الغرب على التعامل مع تركيا بمنطق الحليف الذي لديه حقوق مع شركائه كما الواجبات التي عليه تجاههم. تُظهر اتفاقية فيلنيوس وقبلها مذكرة مدريد الثلاثية (بين تركيا وفنلندا والسويد) أن أردوغان نجح في فرض منطق جديد في العلاقات مع الغرب.
حقيقة أن الدول الغربية اضطرت على مضض إلى تقديم وعود لأردوغان من أجل إتمام عضوية السويد في الناتو مثل إعادة تحريك مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وتعهّد أكثر صراحة من إدارة بايدن بدعم مساعي تركيا لشراء مقاتلات دفعة من مقاتلات إف-16 وتحديث أسطولها الجوي، تُشير إلى أن أزمة توسيع الناتو لم تكن سيئة بالضرورة، بل كانت حاجة لخلق هذه الفرصة بين أنقرة والغرب وفتح نقاش حول الأسباب التي أدت إلى تدهور العلاقات وسبل إصلاحها. بالطبع، لم يكن الغرب في السابق ساذجاً إلى درجة تجعله غير مُدرك لخطأ سياساته تجاه تركيا، لكنّه لم يكن مستعداً للاعتراف بذلك وما تغيّر اليوم هو أن قضية توسيع الناتو وتزايد الأهمية الجيوسياسية لتركيا بعد الحرب الروسية الأوكرانية فرضا على الغرب الاعتراف بأن هذه السياسات أضرت على نحو كبير بالعلاقة مع أنقرة وينبغي التخلي عنها. سيكون من غير الواقعي الإفراط في الرهان على جدية الغرب في تغيير تعاملاته مع أنقرة، لكنّ اتفاقية فيلنيوس كشفت على الأقل أن الدول الغربية باتت مستعدة للتعامل بشكل مختلف مع تركيا.
إن جانباً أساسياً من غياب النقاش حول المشاكل التركية الغربية وسبل إصلاحها في السنوات التي أعقبت تصاعد التوترات بين الجانبين خصوصاً بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا قبل سبع سنوات، يتمثل في أن الغرب اعتقد بشكل خاطئ أن أضرار التوترات عليه أقل مما هي عليه بالنسبة لتركيا وبأن معاقبتها على خياراتها الجيوسياسية يُمكن أن تؤدي إلى احتوائها وإجبارها على تبني سياسات أكثر انسجاماً مع الغرب. لقد أثبتت تجارب سبع سنوات من التوترات بما لا يدع مجال للشك أن الاستراتيجية الغربية لم تكن قصيرة النظر فحسب، بل شكّلت فرصة لتركيا لإعادة تشكيل سياساتها الخارجية بما يُقلّص من اعتمادها على الغرب في المجالات الحيوية مثل الصناعات الدفاعية والاقتصاد والمجالات الجيوسياسية.
هناك الكثير من العوامل الواقعية التي تُساعد في تفسير رغبة أردوغان الحالية في إصلاح العلاقات مع الغرب. قبل كل شيء، لا تزال تركيا تنظر إلى نفسها على أنها جزء من الغرب حتى في الوقت الذي بدأت فيه تبني هوية جيوسياسية مستقلة عن الغربيين. قد تكون التحديات الاقتصادية التي يتعامل معها أردوغان في ولايته الرئاسية الجديدة مُحفز مهم وربما أساسي لتهدئة التوترت مع الغرب. علاوة على ذلك، فإن التقارب مع الغرب يُساعد تركيا في تعزيز نهج التوازن في سياستها الخارجية بين روسيا والغرب. لكنّ العامل الأكثر أهمية في تفسير التحول الجديد يتمثل بشكل أساسي في تخلي الغرب عن استراتيجية إعادة إخضاع تركيا وإبداء استعداده لتبني نهج مختلف يقوم على الاعتراف بتركيا كشريك لديه حقوق وهواجس مشروعة.
لذلك، لا يبدو مُستغرباً أن الولايات المتحدة التي فرضت عقوبات على صناعات الدفاع التركية بسبب شراء أنقرة منظومة صواريخ إس-400 الروسية قبل بضع سنوات، هي من تتحدث اليوم عن الحاجة إلى تلبية احتياجات تركيا من مقاتلات إف-16 دون ربط مشتريات الدفاع الجديدة المحتملة بتخلي أنقرة عن منظومة إس أربعمئة. ولا يبدو مفاجئاً أيضاً أن الاتحاد الأوروبي الذي ترك تركيا واقفة على أبوابه لأكثر من خمسة عقود ورهن مفاوضات عضويتها فيه بأثمان جيوسياسية غير واقعية يُبدي انفتاحاًُ على تطوير العلاقات مع أنقرة. في حين أن تركيا أبدت استعداداًَ صريحاً لإعادة تحسين العلاقات مع الغرب في هذه المرحلة، فإن الوصول إلى حقبة جديدة في العلاقات التركية الغربية مرهون قبل كل شيء بمدى مصداقية الغرب في الوعود الأخيرة التي قدّمها لأنقرة ورغبته في تنفيذها.
إن الوعود الأمريكية والأوروبية لتركيا في تحقيق تقدم في بعض القضايا المهمة بين الطرفين تُشكل أرضية جيدة لهذه الحقبة، لكنّه سيتعين على واشنطن وبروكسل ترجمة هذه الوعود على أرض الواقع. تبدو الظروف الحالية لإعادة تنشيط العلاقات التركية الغربية مناسبة على نحو كبير في تحقيق هذا الهدف، لكنّ توفر الفرص لا يكفي دون الاستفادة منها كما ينبغي وإبداء إرادة حقيقية. كان الاحتفاء الغربي باتفاقية فيلنيوس متسرعاً بعض الشيء لأن مصادقة البرلمان التركي على عضوية السويد لا تزال مشروطة بتنفيذ الوعود الغربية الجديدة.