ما يُخفيه الصراع داخل المعارضة التركية
- محمود علوش , إسطنبول
- Jun 15, 2023
مثل هذا النقاش يُفترض أن يكون مؤشراً صحياً على الكيفية التي ينبغي أن تستجيب فيها المعارضة للهزيمة، لكنّه في الواقع يعكس أزمة عميقة داخل جبهة المعارضة. لقد وعد كمال كليتشدار أوغلو زعيم حزب "الشعب الجمهوري" مؤخراً بتمهيد الطريق للتغيير "حتى النهاية"، لكنّه لم يُبد أي مؤشر على أنه سيكون جزءًا من هذا التغيير. من المفارقات العجيبة، التي يصعب إيجاد تفسير طبيعي لها في منطق السياسة، أن كليتشدار أوغلو لا يزال متمسكاً بالبقاء في منصبه رغم أنه قاد أكبر تكتل معارض في تاريخ السياسة التركية الحديث إلى فشل كبير في انتخابات الرابع عشر والثامن والعشرين من مايو/أيار الماضي ورغم أنّه لم ينجح على مدى أكثر من عقد في قيادة حزبه لتحقيق نصر انتخابي مع استثناء الانتخابات المحلية الأخيرة. كما أنّه ابتدع نظرية جديدة في علم السياسة لتبرير الهزيمة بتحويلها إلى نصر لأنّه حرم الرئيس رجب طيب أردوغان من الفوز في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية.
تعكس ظاهرة كليتشدار أوغلو أزمتين كبيرتين داخل حزب "الشعب الجمهوري" وجبهة المعارضة عموماً. الأولى تتمثل في النزعة السلطوية لكليتشدار أوغلو وقادة أحزاب المعارضة الأخرى في رسم السياسات. لدى كليتشدار أوغلو على وجه الخصوص تاريخ حافل بهذه النزعة التي مارسها على مدى سنوات من تزعمه للحزب من أجل ضمان سلطته والقضاء على أي منافس له، فضلاً عن فرض ترشحه للرئاسة بالقوة على شريكه الأساسي في الطاولة السداسية حزب "الجيد". علاوة على ذلك، فإن الكيفية التي وصل بها كليتشدار أوغلو إلى رئاسة حزب "الشعب الجمهوري" لم تكن نظيفة تماماً ويكتنفها الكثير من الغموض. بالطريقة الغربية التي أجبر فيها سلفه دينيز بايكال على التنحي في عام 2010 بفضيحة جنسية مزعومة، أُخرج أيضاً زعيم حزب "البلد" محرم إنجه من السباق الرئاسي الأخير. كيف يُمكن لزعيم معارض أن يُقدم نموذجاً مختلفاً للممارسة السياسية بينما كانت المكائد والضرب تحت الحزم أحد الأدوات الأساسية لتأكيد سلطته على حزب "الشعب الجمهوري". أما الأزمة الثانية، فتتمثل في عجز المعارضة في إحداث تغيير في العقلية والأداء السياسي على مدى أكثر من عقدين. ومن المفارقات الأخرى أن كليتشدار أوغلو، الذي يركب موجة "التغيير" اليوم، يسعى من خلالها إلى إعادة تأكيد زعامته.
كما حرم كليتشدار أوغلو رئيسي بلديتي أنقرة وإسطنبول منصور يافاش وأكرم إمام أوغلو من حق الترشح للانتخابات الرئاسية تحت ذريعة الحاجة إلى بقائهما في منصبهما، فإنه يستخدم اليوم نفس الذريعة لقطع الطريق على طموح إمام أوغلو لزعامة حزب الشعب الجمهوري. يمارس كليتشدار أوغلو حكم الرجل الواحد داخل المعارضة بقدر أكبر بكثير من الاتّهامات التي يوجهها إلى أردوغان بتحويل النظام السياسي إلى حكم الرجل الواحد. لقد استمد أردوغان قوته في النظام الرئاسي من موافقة أكثرية الأتراك على التحول إلى هذا النظام ومن فوزه مرّة أخرى بالانتخابات الرئاسية عبر صناديق الاقتراع، لكنّ كليتشدار أوغلو يستمد قوته في التفرد بزعامة حزب الشعب الجمهوري من خلال المكائد التي ينصبها لمنافسيه. مع أن كليتشدار أوغلو يتحمل جزءًا كبيراً من أسباب الهزيمة الانتخابية الأخيرة بسبب هندسته السيئة للتحالفات الحزبية ورهانه على دعم حزب "الشعوب الديمقراطي" ومنظمة بي كا كا الإرهابية له، وتفريطه بعدد كبير من المقاعد البرلمانية لحزب "الشعب الجمهوري" لصالح أحزاب صغيرة لا تمتلك أي وزن انتخابي من أجل شراء دعمها له في الترشح للرئاسة، إلآّ أنّه لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن المعارضة كان بمقدورها أن تفوز في هذه الانتخابات أو تُحقق نتائج أفضل من تلك التي حققتها، لولا أن كليتشدار أوغلو لم يكن مرشحاً للرئاسة. بهذا المعنى، فإن إلقاء اللوم على كليتشدار أوغلو وحده في الهزيمة لا يبدو منطقياً من وجهة نظر سياسية.
أن يفشل كليتشدار أوغلو على مدى أكثر من ثلاثة عشر عاماً في إخراج حزب "العدالة والتنمية" والرئيس رجب طيب أردوغان من السلطة، فهذا يعني أن المعارضة بحاجة إلى تغيير جذري في الأداء والقيادة. نرى الآن أن التغيير في القيادة يأخذ الحيز الأكبر من نقاشات حزب "الشعب الجمهوري" على حساب التغيير في الأداء أيضاً. إن معضلة الأداء السيء لا تقتصر على كليتشدار أوغلو فحسب، بل تطال جميع قادة أحزاب المعارضة بمن فيهم أولئك الذين يسعون الآن إلى الاستفادة من مطلب التغيير في القيادة من أجل تصدر المشهد داخل المعارضة كأكرم إمام أوغلو. مع أن إمام أوغلو ينظر إلى نفسه على أنه شخصية قادرة على إعادة تجديد حزب "الشعب الجمهوري"، وهذا طموح سياسي مشروع له، إلآّ أنه تفوق على كليتشدار أوغلو في الارتهان لعقلية المعارضة الرديئة في ممارسة السياسة الداخلية. لقد كان صاحب استراتيجية "نشر الخوف" في جولة الإعادة الرئاسية، والتي أظهرت إفلاس المعارضة وانفصالها عن الواقع التركي.
حتى لو نجح أكرم إمام أوغلو في الوصول إلى زعامة حزب "الشعب الجمهوري" والإطاحة بكليتشدار أوغلو، فإنه لا يوجد حقاً ما يدعو للاعتقاد بأن حزب "الشعب الجمهوري" سيُصبح أفضل حالاً من السابق من دون أن يُحدث ثورة في الأداء والعقلية. لا يُقدم إمام أوغلو نموذجاً مختلفاً عن كليتشدار أوغلو من حيث الانتهازية السياسية التي يُمارسها من أجل تحقيق طموحه بتزعم حزب الشعب الجمهوري. إن الصراع المحتدم على القيادة بين إمام أوغلو وكليتشدار أوغلو لا يُخاطر فحسب في تعميق أزمة القيادة داخل حزب الشعب الجمهوري، بل يخاطر كذلك بجعل المعارضة أضعف في الانتخابات المحلية المقررة بعد نحو تسعة أشهر. كما أوهم كليتشدار أوغلو بمساعدة إمام أوغلو نفسه الشعب التركي بأن المعارضة ستفوز في الانتخابات الأخيرة، فإن الصراع على القيادة داخل حزب "الشعب الجمهوري" يوهم القاعدة الشعبية لهذا الحزب بأن تغييراً ثورياً سيحصل في المعارضة بعد الهزيمة. إن الرهان على نجاح مثل هذا التغيير أشبه بالرهان على فوز المعارضة في الانتخابات الأخيرة.