آيا صوفيا وإعادة التوجيه الاجتماعي
- ربيع الحافظ, إسطنبول
- Aug 06, 2020
إعادة آيا صوفيا إلى جامع أعادت تحريك ملفات مضى عليها قرون على صلة مباشرة بتكوين مجتمعاتنا وما تمر به اليوم من مخاضات متعددة.
كان آيا صوفيا المعقل الأخير الذي اعتصم فيه أهل القسطنطينية وذروة المعركة بين امبراطوريتين في زمن كانت ثقافة استئصال الغالب للمغلوب هي ثقافة العصر، وكان والسؤال الذي يسأله المعتصمون (لمحمد الفاتح) داخل أنفسهم: ما أنت فاعل بنا؟ وما من إجابة يجدونها غير الاستئصال. كانت أقلام التاريخ متأهبة لتخليد الحدث الذي سيلي تلك اللحظة الحاسمة.
إعلان السلطان محمد الفاتح العفو العام وطمأنة المعتصمين على أرواحهم أعاد مشهد "اذهبوا فأنتم الطلقاء" الذي كان انعطافة في التاريخ في موضع آخر ولكن مع فوارق. قرار الرسول ﷺ العفو عن أهل مكة خلا من عنصر المفاجأة فهو الأخ الكريم ابن الأخ الكريم كما قالت له قريش والصادق الأمين الذي عرفته، مع ذلك أزاح القرار عقبة نفسية وبعث برسالة طمأنينة إلى قبائل الجزيرة العربية التي دخلت على إثرها في الإسلام أفواجاً.
طلقاء القسطنطينية (البيزنطيون) لم يكونوا من عرق الذين تغلبوا عليهم لتنالهم شفقتهم ولم يكن العفو العام مقابل دخولهم في الإسلام، ثم أن ميدان المعركة كان عند نقطة تماس القارات والتقاء الحضارات ولم يكن موضعا معزولا جغرافيا (مكة المكرمة)، مجموعة عوامل جعلت من أخبار العفو العام المنبثقة من داخل آيا صوفيا رسالة اجتماعية بلغت أطراف المعمورة وجعلت من المكان حجر زاوية في نظام اجتماعي جديد ستكون فيه الدولة (وليس حسن النوايا عند الأفراد) ضامنة لحقوق أتباع الأديان الأخرى. لم يدخل سكان القسطنطينية في الإسلام (بشكل عام) لكنهم انتظموا في نظامه الاجتماعي أفواجاً.
نظام مجتمعي جديد
أفضى مشهد آيا صوفيا إلى فتح اجتماعي حينما قرر السلطان الفاتح أن تكون عاصمة مملكته (إستانبول) مجتمعا تتعايش فيه الأديان والاعراق وتحتضن اقتصاداً تساهم فيه كفاءات الأمم أو ما يعرف اليوم(cosmopolitan) ووجه دعوات الى أهل الأرض لاسيما الفنانون والتجار والنحاتون والأدباء للقدوم والعيش والعمل في عاصمته وأعفى المهاجرين من الضرائب بشكل مؤقت ووفر السكن مجانياً فتسارعت الهجرة إلى المدينة التي اجتمعت فيها المساجد والكنائس والمعابد اليهودية والأعمال التجارية وتضاعف عدد سكان إستانبول ست مرات من 50 ألفا عند الفتح إلى 300 ألف في غضون قرن. كان مجتمع إستانبول لوحة اجتماعية غير مألوفة في القرن الخامس عشر.
رؤية جاهزة
كانت الرؤية الاجتماعية لدمج مجتمعي إمبراطوريتين جاهزة وغير مترددة ولم تتطلب نقاشات مطولة بين السلطان ومستشاريه فالرؤية مستحضرة من حضارة الإسلام ومستعارة من حواضره السابقة وآخرها الأندلس ولم تكن رؤية مزاجية.
يقول المستشرق البريطاني توماس آرنولد: "لم تكد حاضرة الامبراطورية الشرقية القديمة تسقط في أيدي العثمانيين سنة 1453م حتى توطدت العلاقات بين الحكومة الإسلامية والكنيسة المسيحية بصفة قاطعة وعلى أساس ثابت ومن أولى الخطوات التي اتخذها محمد الثاني (الفاتح) بعد سقوط القسطنطينية وإعادة إقرار النظام فيها أن ضمن ولاء المسيحيين بأن أعلن نفسه حامي الكنيسة الإغريقية فحرم اضطهاد المسيحيين تحريما قاطعا ومنح البطريرك الجديد مرسوماً يضمن له ولأتباعه ولمرؤوسيه من الأساقفة حق التمتع بالامتيازات القديمة والموارد والهبات التي كانوا يتمتعون بها في العهد السابق"
هكذا بدا مجتمع إستانبول
قسمت إستانبول إلى 13 قسما رئيسيا يتكون كل منها من أحياء ثانوية يشكل الجامع (أو الكنيسة أو الكنيس اليهودي) مركزها ويمثل الحي كياناً للهوية المشتركة لساكنيه وله مبعوث خاص من قاضي إستانبول يدعى النائب، وللحي إمام هو مديره الإداري في حين يقوم القس أو الحاخام في الأحياء الأخرى بمهمة الاتصال مع السلطات الرسمية، وإضافة إلى مهمته في الحفاظ على التضامن الاجتماعي والديني بين ساكنيه فإن الحي يشكل وحدة إدارية ذاتية توفر الخدمات المدنية ويتحمل ساكنوه مسؤولية مشتركة في أعمال الصيانة ونظافة طرقاته وجباية الضرائب ومراقبة الأمن والواجبات الأخرى نحو الدولة، وتتفن الأحياء بهندسة معمارية تبرز ثقافتها كمعبد اليهود الذي صمم على شكل السفن العثمانية التي أنقذتهم مع المسلمين من الأندلس من إبادة المسيحيين لهم.
عصر الدولة والقوانين
مثل مشهد آيا صوفيا عودة النظام السياسي ـــ الاجتماعي (المهاجر) الذي نشأ في دمشق الأموية ثم بغداد العباسية ثم ابتعد (عن الشرق) إلى قرطبة الأندلسية، كما أنه مثل عودة العاصمة التي ترخي ظلالها الاجتماعية والاقتصادية العسكرية والثقافية على ما حولها والتي خلا منها الشرق قروناً طويلة وغدا ساحة للغزو الخارجي ليأتي دور العاصمة على إستانبول.
عاد ذلك المجتمع لكنه (هذه المرة) بنظم إدارية تقتضيها التعددية الدينية والقومية المتزايدة في المجتمع ما دفع باحثين غربيين إلى اعتبار أن المواطنة بمفهومها الحديث هي بضاعة عثمانية وأنها كانت سبباً في امتداد فترة حكم الدولة العثمانية (80 قومية ودينا ومذهبا) ستة قرون وهي أطول فترة لإمبراطوية.
طلقاء آيا صوفيا لم يكونوا محليين فقط (الذين صدر فيهم قرار العفو) وإنما تبعهم طلقاء (طوعيون) من أرجاء المعمورة وجدوا في عاصمة المملكة الجديدة كيانا مجتمعياً آمناً وواعدا، وثمة صنف ثالث من الطلقاء وهم الذين نقلوا نظامها الاجتماعي إلى بلدانهم كملك السويد تشارلز الثاني عشر الذي كان يعيش منفياً في إستانبول في 1790 وأبهره نظام الرعاية الاجتماعية فيها وقطع على نفسه عهداً على أن ينقله إلى بلاده إن استعاد عرشه وقد كان، ويقوم نظام الرعاية الاجتماعية في السويد اليوم على نفس المبادئ، كما استفادت أوروبا المعاصرة من منظومة حقوق الأقليات في الدولة العثمانية (نظام مللي) في إدارة أنظمة التعددية الثقافية التي تبنتها أوروبا حديثاً.
النظام الاجتماعي والإداري الذي انبثق من آيا صوفيا قبل 567 عاما واكب التمدد الإقليمي للدولة العثمانية واصبح نظاما إقليميا حفظت به الحواضر العربية الموصل وحلب وبغداد ودمشق والقدس مجتمعاتها على مدى القرون الخمسة من حكم الدولة العثمانية واستقر بعد سقوطها في مجتمعات الدول المعاصرة التي تشظت عنها.
كان آيا صوفيا مشهدا لصفحة حضارية جديدة لحظة سكوت المدافع وبذلك فإن دلالة إعادته إلى جامع هي أكبر من حادثة استعادة مكان للعبادة وهو تخليد لوثبة في تاريخ الإنسانية أعادت توجيه النظام الاجتماعي للبشرية.
تركيا ومعها المجتمعات العربية بحاجة إلى تقديم دروس من تلك الوثبة الحضارية إلى منطقتهم التي مزق مجتمعاتها وهدم حواضرها نظام معاكس للنظام الذي شيد إستانبول هو نظام المليشيات، ومدعوة لإيضاح لماذا استطاعت تلك الحواضر طوال القرون الماضية الحفاظ على بنيتها الاجتماعية شديدة الشبه بالبنية الاجتماعية التركية بينما تفقدها اليوم.
إحياء الالتحام الثقافي بين العرب والأتراك على الأسس الاجتماعية التي تلت فتح آيا صوفيا هو أفضل طريقة للاحتفال بعودتها إلى مسجد.
* كاتب وباحث في العلاقات الإستراتيجية العربية التركية والدراسات العثمانية