النوستالجيا و زمن الطيبين!
- جري سالم الجري, إسطنبول
- Apr 13, 2019
كل مصطلح في علم النفس هو عبارة عن "كوكتيل" مشاعر مخلوطة، يعطيها الطبيب النفسي مسمى علميا درسه بالجامعة. فكما يسمي الكيميائيون اتحاد ذرتي الهيدروجين بذرة الأوكسجين، فاتحاد الحنين إلى الماضي و ألم فقدانه هو النوستالجيا. ولكن يا عزيزي القارئ، كيف نطرد النوستالجيا من حياتنا بسرعة كبيرة جداً؟ لأنها ليست مجرد حنين، بل هي أنين على أيام لن تعود لنا أبداً. في هذا المقال سنعرف كيف ندير أظهرنا لزماننا القديم الدافئ، و نتخلص من كل أوجاع أشواقنا له ونستريح من فقدانه. فهيا بنا ندخل بيت أبو و أم صالح، فكلاهما طبيبان نفسيان، وبيتهما يكاد أن يتفرقع من كثر التجارب والنظريات على ابنهما و خادمتهما و جيرانهما و زوارهما!
في تمام الساعة الثانية ظهراً، وضعت الخادمة أصناف الطعام على الطاولة الفخمة و نزل الزوجان ليتناولا الغداء، أما ابنهما، فكل يومٍ يخلق عذراً للهروب من الغداء الذي يشبه جلسة مجانية لتشريح سيكولوجيته. ابتسم ابو صالح وقال :《تتذكرين لما كنا نجلس على الأرض و نأكل بأيدنا مع كل أبناء أعمامنا و أخوالنا؟》. عبست أم صالح وقالت:《 يا شين أيام التخلف ..》. رد عليها بسرعة:《 كان الربع دينار نشتري فيه علك و "بيبسي" وبطاط و نأجر دراجة، و قبل ما نرد لبيوتنا نحذف قط الحارة البرتقالي ذاك بالحجارة والنعول وكأنه جندي صهيوني!》. سكتت أم صالح، وعم المكان صوت الأشواك والملاعق بمشهد رتيب وممل. شق الصمت ضحك أبو صالح ثم قال:《 والله العظيم تذكرت لما انتي مسكتي الصرصار ورميته على بدرية!》. بقوة ضحكت ام صالح وقالت وهي تقهقه:《 رجاء الحين وقت الغداء!》. و بعدها أتبع كلامه ابو صالح:《 وأتذكر لما أبوكم مسكك بيمينه من شعرك ورفعك من الأرض و أختك سحبها من ثوبها و أعادكم للبيت بعدما كنتما تلعبان في الحَوش بالليل معي أنا و عدنان ولد جارنا الله يرحمه.》. لم يعد أحد يسمع صوت الأواني فقد استبدل المكان سواليف الزمن الجميل بين ابو و ام صالح، بمشهدٍ فاجأ الخادمة.
ولكن لما عاد أبو صالح لغرفة النوم وهو باسم و ضاحك... اغتمت واهتمت أم صالح على فقدانها زمنها الماضي، و قد لاحظت أنها شابت وتحولت لإنسانة آلية، فما الحل بسرعة؟ فهي الآن بألم...ما عساها أن تفعل. لامت أبو صالح على تذكيرها بما فات، فإن علم النفس الذي تعلماه ليس فيه سوى علاج النفوس بالتهدئة فإن الشفاء بالدين، فلو تذكر الإنسان بإنه بالفعل سيحيا حياة جديدة من بدايتها لما كان التفاته إلى الماضي إلا للتعلم والسرور؛ و لرأى الدنيا على حقيقتها، وهي أنها مجرد ممر إلى أبديةِ النعيم، وليست مجرد مكان ننفني فيه.
(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)
سورة العنكبوت. (64)