كثيرة هي المعايير والأشياء التي تعكس الطابع الثقافي للمدن وتساهم في تشكيل هويتها، لكن هندستها المعمارية هي التي تضفي عليها الروح وتمنحها طابعاً مميزاً تفخر بالتفرد به. وإسطنبول مثلاً وبالرغم من جميع الكوارث الطبيعية التي مرت بها، لا تزال تعكس روحها من خلال مبانيها المميزة والمعماريين المبدعين الذين تركوا بصمات شاهدة على الزمان لم تتمكن الأيام من إزالتها.
لا تزال إسطنبول مدينة مفعمة بالحياة والتجارة منذ عدة قرون. وقد دأب المهندسون المعماريون العظماء على مر العصور على بناء روائعهم فيها. وبمرور الوقت، أصبحت بعض المباني علامات تحدد هوية المدينة، وبالفعل تمكن كبار المعماريين من بث الروح في أحياء ومناطق مختلفة من إسطنبول. وللتعرف على المباني المميزة في هذه المدينة الفاتنة ومهندسيها العظماء لا بد للزائر والمقيم من سبر أعماق تاريخ إسطنبول المعماري.
تاريخ آيا صوفيا المعماري:
عندما انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين، أصبحت إسطنبول عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية والمعروفة باسم الإمبراطورية البيزنطية. والواقع أن روح إسطنبول بدأت تتشكل خلال فترة حكم تلك الإمبراطورية القوية. أما قصة بناء آيا صوفيا فقد بدأت في عام 532 عندما اندلع تمرد نيكا، مؤذنةً بانطلاق ثورة كبيرة في القسطنطينية. في ذلك الوقت، كان الإمبراطور جستنيان الأول قد مضى على حكمه للإمبراطورية خمس سنوات وأصبح غير مرغوب فيه من قبل شعبه. لذلك أمر المهندسَين المعماريَين المتميزَين "إيزيدور ميليتوس" و"أنتيموس تراليس"، ببناء الكاتدرائية الأكثر شهرة في المسيحية بهدف استعادة حب شعبه واحترامهم له. وقد قام المهندسان المعماريان بالفعل ببناء آيا صوفيا لكنهما أتمّا بناءها على عجل، إذ انتهيا منها في أقل من ست سنوات.
بعدما فتح العثمانيون مدينة القسطنطينية عام 1453، أمر السلطان محمد الفاتح الحفاظ على الكاتدرائية وتحويلها إلى مسجد. أثناء عمليات التحويل تلك، أضاف المهندسون المعماريون العثمانيون ميزات إسلامية إلى المبنى مثل المحراب والمنبر وأربعةً من المآذن. بقي بناء آيا صوفيا مسجداً تقام فيه الصلوات ويرفع فيه الأذان حتى عام 1931 عندما تم إغلاقه لمدة أربع سنوات. ثم أعيد افتتاحه عام 1935 كمتحف في عهد الجمهورية التركية. يعد متحف آيا صوفيا ثاني أكثر المتاحف زيارة في تركيا، فهو يستقطب منذ عام 2014 حوالي 3.3 مليون زائراً في السنة. واليوم كما هو معروف، آيا صوفيا واحد من أشهر رموز إسطنبول.
مسجد السليمانية:
معمار سنان أو المهندس المعماري سنان، هو أشهر مهندس معماري في الإمبراطورية العثمانية التي حكمت ثلاث قارات لقرابة 600 عام. وُلد معمار سنان عام 1490 في قرية أغيرناس في قيصري. نُقل إلى إسطنبول لينضم إلى نظام تدريب المواطنين غير المسلمين في الإمبراطورية ليكونوا ضباطاً عاملين مع الدولة وذلك في زمن السلطان سليم الأول، المعروف أيضاً باسم ياووز سلطان سليم.
بدأ نجم المهندس سنان يتألق في عهد سليمان القانوني، الذي حكم في القرن السادس عشر. وقد أبدع سنان لمسات معمارية مميزة على 365 عملاً في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك 109 مسجداً و52 مسجداً صغيراً و55 مدرسة و7 كتاتيب لتعليم القرآن الكريم و20 ضريحاً و3 مستشفيات و6 ممرات مائية و10 جسور، و20 نزلاً كبيراً و36 قصراً و8 أقبية للتخزين و48 حماماً عامّاً، قبل وفاته عن عمر يناهز 98 عام. وعندما أمر سليمان القانوني معماري سنان ببناء مسجد باسمه، اختار المعماري الكبير إحدى التلال المطلة على القرن الذهبي في إسطنبول، وأنشأ واحداً من أجمل مساجد المدينة: مسجد السليمانية.
استمر بناء مسجد السليمانية تسع سنوات وتم إحضار المواد المستخدمة في البناء من كافة أنحاء البلاد. وكانت الأحجار واللبن ومواد البناء اللازمة ترسل إلى موقع البناء دون انقطاع، وقام الحرفيون الأكثر مهارةً في الامبراطورية، بتصميم وتنفيذ أروع أعمالهم في بلاط المسجد وزخارفه.
وإلى يومنا الحاضر ينظر إلى مسجد السليمانية على أنه تحفة من مهندس أعطى الإمبراطورية العثمانية روحها، بالإضافة إلى كونه أحد أكثر المباني التي تزين أفق إسطنبول روعةً.
المسجد الأزرق:
يُعرف مسجد السلطان أحمد باسم المسجد الأزرق بسبب السيراميك الأزرق المزخرف الذي يزين جدرانه الداخلية، وقد بني المسجد بتكليف من السلطان أحمد الأول، وافتتح للصلاة عام 1616. وهو واحد من أجمل نماذج العمارة العثمانية، ويتفرد بمآذنه الست التي تؤكد هويته العثمانية يوماً بعد يوم. بناه المهندس المعماري "صدف كار محمد آغا" مباشرة مقابل كنيسة آيا صوفيا. تم إنتاج بلاط المسجد الداخلي على يد أمهر الحرفيين في مدينة إزنيق، حيث تزين داخل المسجد أكثر من 20.000 قطعة بلاط. وتم ترميم المسجد الأزرق آخر مرة قبل ثلاثة عقود.
جاء المهندس المعماري "صدف كار محمد أغا" إلى إسطنبول من منطقة البلقان، وبدأ تعليمه في "إندرون"، المدرسة العثمانية التي يتعلم فيها موظفو الخدمة المدنية. كان واحداً من أفضل المهندسين المعماريين الذين عملوا تحت إشراف المهندس المعماري العثماني العظيم سنان. بعد تقاعد سنان، أصبح "محمد آغا" المهندس المعماري الرئيسي للدولة العثمانية. وقد قام ببناء العديد من المساجد والجسور في جميع أنحاء الأراضي العثمانية.
قصر "دولمة بهجة":
قصر"دولمة بهجة"، في منطقة بشيكطاش في إسطنبول، كان فيما مضى مقراً للسلاطين خلال الفترات الأخيرة من الإمبراطورية العثمانية. بناه "غاربيت أميرة بايلان"، من عائلة "بايلان" الأرمنية العثمانية، التي اشتهرت بتخريج أجيال من المهندسين المعماريين الذين أبدعوا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وبنوا العديد من المباني من القصور والمساجد والكنائس والبيوت على الواجهة البحرية للبوسفور والثكنات والمدارس والمستشفيات والأبراج والنوافير والسدود والمسارح.
بنى "غاربيت أميرة بايلان" عدداً لا يحصى من المباني العامة والخاصة طوال فترة حياته المهنية التي امتدت 30 عاماً، ولا تزال معظم أعماله قائمة حتى اليوم. وقد لعب هذا المهندس الفذ دوراً مهماً في التطورات الحضرية في بعض مناطق إسطنبول خصوصاً منطقة "غلاطة" في عهد السلطان عبد المجيد. ومن أهم أسباب نجاحه ابتعاده عن تقليد نماذج الأبنية الأوروبية بحذافيرها واستخدام الانسجام الطبيعي بين الطبيعة والبحر والأساليب الكلاسيكية الجديدة التي تمزج فن العمارة الأوروبية مع فن العمارة العثمانية التقليدية.
وقد استضاف قصر "دولمة بهجة" آخر سلاطين الإمبراطورية العثمانية الخليفة عبد المجيد أفندي. وبعد تأسيس الجمهورية التركية، اتخذ مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك من القصر مقراً رئاسياً له. وفي أيامنا الحالية يستخدم هذا المقر الرئاسي في القصر كمكتب للرئيس رجب طيب أردوغان.
مسجد أورتاكوي:
بني هذا المسجد العريق على يدي المهندس المعماري الماهر "نيغوغوس باليان" وهو ابن "غاربيت أميرة باليان" باني قصر "دولمة بهجة"، وسليل عائلة المعماريين المبدعة. ولد "باليان" الابن في إسطنبول عام 1826، ودرس في كلية "سانت باربي" في باريس. تتلمذ على يد المهندس المعماري الشهير Labrouste قبل أن يصبح المهندس الرئيسي في الامبراطورية العثمانية، حيث شغل منصب مستشار الفن المعماري والزخرفة في عهد السلطان عبد المجيد الأول. عمل "نيغوغوس باليان" مع والده في بناء قصر "دولمة بهجة". وقام بتدريب طلابه على زخرفة الجدران ونحت الحجر من خلال مدربين أحضرهم من أوروبا. صمم "نيغوغوس باليان" جامع "أورتاكوي" الواقع بجوار جسر شهداء 15 يوليو، وقام بتنفيذ بنائه الذي يعتبر أحد أجمل الأمثلة على فن عمارة الـ"باروك" في إسطنبول، وهو أسلوب زخرفي ظهر في إيطاليا في أوائل القرن السابع عشر وانتشر تدريجيا في جميع أنحاء أوروبا. ويعد جامع "أورتاكوي" نموذجاً حياً لهذا الطرز من العمارة، مع نوافذ خارجية مزخرفة ونوافذ كبيرة تتيح للضوء أن يصل دون إعاقة إلى الداخل البسيط نسبياً. بهو الجامع الرئيسي صغير ومربع الشكل، بينما يتكور السقف على شكل قبة مغطاة بالفسيفساء الوردي. للجامع مئذنتان طويلتان، لكل منهما شرفة واحدة.