في قلب مدينة قسنطينة يقع المتحف الوطني الحكومي "سيرتا"، ثاني أكبر متاحف إفريقيا بعد المتحف المصري بالقاهرة، حيث تعرف محتويات المتحف بتاريخ وحضارة الجزائر على مر العصور، ويُذكر بالاحتلال الفرنسي للبلاد.
تاريخ المتحف
أُنشئ هذا المتحف بعد طلب قدمته الجمعية الأثرية (التي أنشأها الاستعمار الفرنسي آنذاك عام 1852 بقسنطينة)، أثناء احتفال فرنسا بمئوية احتلالها للجزائر، واستمرت الأشغال فيه من عام 1929 وحتى 1931.
وهو عبارة عن بناية مربعة الشكل تقع على مساحة قدرها 2100 متر مربع، منها 1200 متر للبناية و900 متر للحديقة المحيطة بها.
وأطلق على المتحف في البداية اسم "غوستاف ميرسي" مؤسس الجمعية الأثرية، إلا أنه بعد استقلال الجزائر عام 1962، أطلقت السلطات عليه اسم "سيرتا" وهو اسم قديم لمدينة "قسنطينة".
محتويات المتحف
يقول عبد الحق شعيبي محافظ التراث الثقافي بالمتحف سابقاً، إن المتحف من حيث قيمة آثاره، فهو يعد من أكبر المتاحف العالمية، حيث يضم أكثر من 7 آلاف قطعة أثرية، تمثل حقب تاريخية مختلفة، بدءاً من قبل التاريخ وصولاً إلى المرحلة الحديثة والمعاصرة.
وأشار إلى أن مصمم المتحف هو المهندس المعماري ذو الأصول الإيطالية "كاستيلي"، وهو من اختار مكانه بدقه وعناية ليتوسط المدينة التاريخية.
ويضم "متحف سيرتا" حديقة فيها 202 قطعة أثرية، و14 قاعة تحتوي كل واحدة منها على مجموعات أثرية، من أبرزها قاعة ما قبل التاريخ، وقاعة ماسينيسا، وقاعة الفن العالمي.
حقب تاريخية متنوعة
ولفت شعيبي أن ما يمز المتحف أنّه يضم كل الحقب التاريخية، مثل ما قبل التاريخ، النوميدية (مملكة أمازيغية قديمة)، الرومانية، الوندالية (دولة ظهرت بشمال إفريقيا بين عام 429 و533م)، والحقبة الإسلامية، ثم الحديثة والمعاصرة، ولذلك صنفته "يونسكو" (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) من أجمل وأثرى المتاحف العالمية، في إفريقيا بعد المتحف المصري.
وتضم قاعة الحقبة الرومانية كل ما يتعلق بالزينة عند المرأة في تلك الفترة، مثل إبر الخياطة، أدوات التجميل، الحلي، الأمشاط المصنوعة من عظام الحيوانات، تماثيل نصفية لآلهة رومانية، أقفال.. وغيرها".
وفي قاعة الملك ماسينيسا، تتجلى صورة قديمة لضريح ماسينيسا (الفترة النوميدية حوالي 250 قبل الميلاد) غير مكتملة، حيث يبلغ طولها الأصلي نحو 29 مترا، ولكن الزلازل عبر الأزمنة تسببت بانهيار بعض أجزائه، وفق شعيبي.
والملك ماسينيسا هو أول ملوك نوميديا (46-202 قبل الميلاد)، ولد بمحافظة خنشلة (حاليا) شرقي الجزائر، ثم انتقل إلى قسنطينة، حيث اتخذها عاصمة للمملكة النوميدية، توفي عام 148 قبل الميلاد في المدينة ذاتها.
"وفي 1915 قام الفرنسيون بفتح الضريح ودخلوا قاعة الدفن واستخرجوا أثاثا جنائزيا، مثل سيف مهشم، رؤوس رماح، خوذة، درع، وأوسمة وإناء من فضة.."، بحسب المحافظ.
ويلفت شعيبي إلى أنّ "التحليل الكربوني للعظام يشير إلى أنّ الشخص المدفون في الضريح عمره 50 سنة، ويُرجح أنّه للملك ماسينيسا."
كما تحتوي إحدى القاعات على لوحات قديمة، مثل لوحة "الأقواس الرومانية" لصاحبها روجار ماريوس دوبا (1906-1972)، ولوحة "خوانق واد الرمال" لماكسيم هورلين.. وغيرها.
** الحقبة العثمانية
وتضم "قاعة قسنطينة" مجسما صغيرا للمدينة وشوارعها وبناياتها خلال الفترة العثمانية (1515-1830) وتحديدا بين عامي 1826–1848، إبّان حكم الحاج أحمد باي (بايلك قسنطينة)، لكن الاحتلال الفرنسي أجرى عليها تعديلات وشيّد مباني شاهقة حتى يغطي على العمارة العثمانية.
ويحتوي المتحف على 406 لوحات أصلية، أشهرها لوحة الرسام إيتيان دينيه "المسنات" و"الطبيعة الصامتة" التي تعد أقدم لوحة في الجزائر لجون بابتيست موني، بحسب المحافظ.
وفي سياق متصل قال "عبد المجيد بن زراي" المكلف بالاتصال في المتحف، إنّ "سيرتا" من أقدم المعالم بالجزائر، إذ يضم كما هائلا من الشواهد الأثرية لحضارات عريقة تعاقبت على المدينة منذ فجر التاريخ حتى الحقبة العثمانية.
ويشير بن زراري، إلى أنّ "السكان، خصوصا شريحة الشباب منهم، لا يعيرون هذا المتحف اهتماما كبيرا، وثمة من يقطن منهم في قلب قسنطينة ويعترف بأنه لم يزره".
ويرى أن "هذه الثقافة المتحفية الغائبة لدى فئة من المجتمع هي نتيجة تراكمات لسياسات تعليمية وثقافية سابقة".
ووفق بن زراري فقد رسخ الاستعمار الفرنسي في أذهان الناس (السكان الأصليين)، أن متحف سيرتا هو دار العجب (الخرافة)، حيث أصبح الأهالي يستصغرون أهميته ومكانته في المدينة.
ويقول إن "الاعتقاد ترّسخ عند السكان لسنوات بأنّ كل ما في المتحف مجرد خرافة، لكن مع مرور الزمن وبفضل سياسات وزارة الثقافة، أصبح المواطن يهتم بالمتاحف وبالموروث الثقافي المادي واللامادي".
ويشير إلى أنّ "المتحف يُنظم نشاطات على منصات التواصل الاجتماعي ونشر مطويات تعريفية وندوات ودورات تكوينية وغيرها، للتعريف بأهمية المتاحف والموروث الثقافي.
من جانبه، يرى الإعلامي المتخصص في الشأن الثقافي فيصل مطاوي أنّ "متحف سيرتا أحد أجمل المتاحف في الجزائر وإفريقيا والعالم العربي والعالم".
ويقول مطاوي: "يضم قطع أثرية قديمة جدا، وفيه أقدم لوحة تعود إلى العام 1600، كما أنّه يؤرخ كل الحقبات، كما يمكننا أن نطلق عليه مخزن تاريخ الجزائر وذاكرتها".
ودعا مطاوي السياح الذين يزورون المدينة العتيقة إلى زيارة المتحف والاستمتاع بالتاريخ هناك.