مع انطلاق خارطة الطريق الفضائية الطموحة لتركيا، الممتدة لـ10 سنوات قادمة والمتضمنة بعثات إلى القمر، يأخذنا هذا المقال في رحلة استكشافية حول تاريخ البلاد في الفلك ودراسات الفضاء.
ولما كان تطور وتقدم أي مجتمع معتمداً على التقاء العلوم والثقافة والفنون معاً، لذلك فمن المؤكد أن نشهد في الفترة القادمة إبداعات تتناول دراسات الفضاء في الرسم والمسرح والسينما. ومن الضروري سبر تاريخ العلوم لإعطاء دراسات الفضاء جانباً وطنياً يعكس جذورها التاريخية في أمة موغلة في الحضارة والقدم.
والتاريخ التركي معروف في الواقع بدراسات الفضاء وعلم الفلك ابتداءً من الأتراك الأوائل إلى العثمانيين، ويمتلك الأتراك تاريخاً علمياً وثقافياً عميق الجذور في أبحاث الفضاء والفلك.
استخدم العثمانيون مصطلحات "علم النجوم" و"علم الحياة" و"علم الفلك" على مدى التاريخ الإسلامي. وبالعودة إلى الفترات السابقة، نرى الأتراك قد تعاملوا مع السماء والنجوم نظراً لأنهم كانوا من البدو، فقد كانوا بحاجة ماسة إلى معرفة حالة الأيام والفصول. لذلك كانت معرفة علم الفلك واجبةً لتنظيم حياتهم وتنقلاتهم. وتظهر اللغة التركية القديمة العديد من أسماء الكواكب والأبراج مثل "أولكر" و"أوي" و"تيليك" و"تمير كازيك" و"يديغر" و"ألغو".
وأبرز مثال على اهتمام الأتراك القدماء بالأجرام السماوية "ملحمة أوغوز خان" الذي يمثل الشخصية الأسطورية للشعوب التركية، حيث تزوج فتاة تخرج من نور نازل من السماء إلى الأرض، وسمى أطفاله شمس وقمر ونجم.
ومنذ دخولهم فجر التاريخ آمن الأتراك القدماء بإله واحد وأطلقوا عليه اسم "غوك تانري" أي صاحب السماء. ولم يكن الاهتمام بالسماء أو الفضاء فريداً لدى الأتراك، ففي العصور الوسطى وما قبلها، كانت المعرفة بعلم الفلك وعلم التنجيم مختلطة وسائدة بين الشعوب. وكان المهتمون بعلم الفلك يعدون "عرافين" قبل أن يلعب علماء الإسلام دوراً كبيراً في الفصل بين هذين الفرعين.
ومع انتشار الإسلام حققت الدراسات الفلكية في العصر الأموي الممتد بين 661-750 والعصر العباسي الممتد بين 750-1258 تقدماً كبيراً. وتم تشجيع هذه المساعي من خلال تفسير آيات القرآن التي تحث على العلم والمعرفة كأدوات توصل للإيمان وإعمار الأرض بما ينفع الناس، وبشكل يتجاوز الفضول أو الحاجة البسيطة التي كانت لدى الحضارات الأخرى.
وتتطرق الكثير من آيات القرآن الكريم إلى الأجرام السماوية باعتبار أن ما في الفضاء دليل على قوة الله وقدرته، تماماً مثل الكائنات الحية وغير الحية المخلوقة في الطبيعة. وتشير تلك الآيات إلى وجوب التفكر في الكواكب والأجرام السماوية والانسجام بينها ودراستها بعناية وتعلم الدروس والعبر من دقة خلقها وعظمة خالقها.
لذلك بدأ العديد من علماء المسلمين بدراسة علم الفلك الذي شهد العديد من الاكتشافات على أيديهم حيث تكشف الكتب التي أعدها مؤرخ العلوم الأستاذ "فؤاد سيزكين" والتي نالت العديد من الجوائز العلمية، كل هذه التطورات.
النهضة الإسلامية
لقد كانت أولى الدراسات الجادة في علم الفضاء في التاريخ التركي مراصد عملاقة أُنشئت في عهد الإمبراطورية السلجوقية الكبرى التي امتدت بين 1037-1194. وخلال هذه الفترة بدأ الوزير الشهير "نظام الملك" في افتتاح المدارس الدينية في جميع أنحاء الإمبراطورية السلجوقية لتقوية العلوم الإسلامية والحياتية وتدريب العلماء الذين تحتاجهم الدولة لانتصارها ودوامها.
وأصبحت المدارس ودور العلم التي تم إنشاؤها في بغداد نموذجاً مثالياً للعالم الإسلامي بأكمله. ومن أشهر العلماء الذين درسوا لسنوات عديدة في هذه المدارس التي كانت رائدة أيضاً في الدراسات الفلكية، الفقيه الإسلامي "أبو حامد الغزالي" الذي قال في أحد كتبه: "من لا يعرف علوم التشريح والفلك لا يفهم وجود الله وجبروته".
وكان يُنظر إلى علم الفلك في هذه البيئة على أنه علم يستحق التعلم، في حين كان يُنظر إلى علم التنجيم ومعرفة الغيب على أنه تخصص محرم أخرق. ويشير المؤرخون إلى هذه الأعمال العلمية في الفترة الممتدة بين 1077-1308 وفترات السلاجقة الكبرى باسم "نهضة التاريخ الإسلامي".
ومع قدوم عصور الانحدار والظلام دمرت الغزوات المغولية التي وصلت إلى بغداد كل هذه المعرفة العلمية في الإمبراطورية السلجوقية وأغرقت الناس في الجهالة والغفلة. كما تم تدمير الأعمال التي كتبها العلماء على مدى سنوات طويلة ولم يتسن إلا إنقاذ القليل منها. وقد ذكر المؤرخون أن نهري دجلة والفرات جريا في بداية الغزو بمياه حمراء من كثرة الدماء المراقة ثم أصبحا أسودان من الحبر.
النظام الشمسي في المسجد
بعد وصول العثمانيين إلى الحكم وضمهم لهذا التراث المدمر حاولوا تطويره وعملوا على إحيائه ونهضته، فقاموا بإجراء قياسات للشمس والقمر والنجوم والكواكب وألفوا عنها الكثير من الكتب والمخطوطات. ونهج الباحث "شمس الدين الفناري" نهج العالم "الغزالي" في التفكير والتعرف على العلوم الدقيقة.
وبالرغم من توقف نقل الدراسات العلمية، استمرت الأعمال الفلكية في التأثير على الثقافة اعتباراً من القرن الأول للدولة العثمانية حيث كان لهذه الأعمال انعكاسات في مختلف فروع الفن من العمارة إلى الأدب. وعلى سبيل المثال، تم بناء الجامع الكبير في بورصة من قبل السلطان "بايزيد الأول" الذي حكم بين عامي 1396-1400. وتميز منبر الجامع الكبير الذي يتم فيه إلقاء خطبة الجمعة بنوع من النظام الشمسي ثلاثي الأبعاد المنقوش بتطريزات جمالية تظهر الكواكب بما فيها كوكب الأرض مستديرةً، وكذلك استخدمت العناصر الفلكية كزخارف تزيينية في العديد من القطع الأثرية.
ومن أبرز الشخصيات العلمية في هذا مجال الفلك "ألوغ بيك" السلطان التيموري وعالم الفلك والشاعر الشهير الأوزباكستاني، وهو شخصية فريدة في التاريخ التركي. وكذلك "علي قوشجي" أحد تلاميذه الذي تمتع بمكانة خاصة في تاريخ العلوم العثمانية إذ تم إحضاره إلى إسطنبول بفضل جهود السلطان محمد الثاني المعروف أيضاً باسم محمد الفاتح، وتم على يديه إحياء العلوم الفلكية بشكل أكبر عندما بدأ بإلقاء المحاضرات في المدارس الدينية. وهكذا حققت المؤسسات التعليمية التي أنشئت في عهد السلطان محمد الفاتح قفزة نوعية كبيرة في هذا المجال، وآتت هذه الجهود ثمارها في القرن السادس عشر.
ومن الأمور غير القابلة للتشكيك أن معرفة العثمانيين بعلم الفلك والجغرافيا تقف وراء قوة الإمبراطورية العثمانية في البحار. فقد قام الملاحون في الفترة العثمانية الذهبية بتحسين الدراسات الفلكية بشكل أكبر. وساهم الملاحون الأتراك مثل "بيري ريس" و"سيدي علي ريس" في هذا المجال من الناحية النظرية والعملية من خلال أعمالهم.
وبعد القرن السابع عشر ترافقت الحروب التي خاضها العثمانيون مع مشاكل اقتصادية خطيرة أدت إلى تراجع الاهتمام بعلم الفلك لكنهم رغم ذلك تابعوا عن كثب الدراسات الفلكية الحديثة في الغرب وقاموا بترجمتها.
على سبيل المثال، تُرجم كتاب "أطلس كوليستيس" لأندرياس سيلاريوس، الذي نُشر لأول مرة عام 1708 إلى التركية بواسطة "إبراهيم متفرقة" بأمر من السلطان "أحمد الثالث". وهكذا بدأت الأعمال المتعلقة بعلم الفلك القديم والحديث تلج إلى الأدب العثماني.
وبحلول القرن التاسع عشر أثبتت جهود السلطان "محمود الثاني" لتحديث البرامج التعليمية نجاحها. ودخلت مفاهيم ومعلومات علم الفلك الجديدة بتفصيل كبير إلى الأدب من خلال مساهمات عالم الرياضيات والمهندس العثماني "إسحاق أفندي" لكن الافتقار إلى الدعم الاقتصادي والأزمات السياسية أحبطت العديد من الدراسات الفلكية.
ومع برنامج الفضاء الحديث الذي أعلنت عنه تركيا مؤخراً يشير الخبراء إلى أن البلاد قد حددت آفاق طموحاتها بالفعل من خلال جعل هدفها الرئيسي تمهيد الطريق للأنشطة التي تضمن تنمية البلاد في جميع المجالات، وخاصة التكنولوجيا.
>بقلم علي توفكجي