لا بد أن الكثير منا يتساءل ماذا كانت تعلم المدارس العثمانية طلابها؟ أو ما هي أنواع الكتب التي درسها طلاب الحقبة العثمانية في مدارسهم؟ وما هي الموضوعات التي تم التأكيد عليها في مناهجهم؟
يقدم هذا المقال دليلاً يحوي بعض التفاصيل عن النظام التعليمي في المدارس العثمانية التي كانت من أهم عناصر الثقافة والحضارة الإسلامية وشكلت أساساً تمكن من إبقاء الإمبراطورية العثمانية قويةً ومقاومةً لقرون طويلة. وكانت هذه المؤسسات التعليمية إذا جاز التعبير، ترسانات دفاعية عن الثقافة والحضارة الإسلامية. كما قامت المدارس على مدى قرون من الحكم العثماني، بتدريب النخبة الحاكمة بالإضافة إلى تعليم الطلاب في مجالات الدين والقانون والطب وعلم الفلك ومواضيع أخرى. ويكاد كل عالم وفنان ورجل دولة مشهور في البلدان ذات الغالبية المسلمة أن يكون قد تلقى تعليمه في نظام المدارس العثمانية حتى القرن العشرين.
مدرسة الرازي:
يلقب الباحثون "المدارس النظامية" بأنها مؤسسات "النهضة الإسلامية"، وهي مدارس أسسها العالم والوزير الأكبر للإمبراطورية السلجوقية "أبو علي حسن بن علي الطوسي" المعروف باسم "نظام المُلْك"، في القرن الحادي عشر. وكانت هذه المدارس من أوائل مؤسسات التعليم العالي بالغة التنظيم في العالم الإسلامي، حيث تمتعت بجودة عالية جداً في التعليم والإدارة لدرجة أنها اشتهرت في أوروبا. وبالرغم من الغزو المغولي الذي دمر المكتبات وأصول التعليم في المدارس الدينية وأصابها بالشلل بشكل كبير، فقد حافظ العثمانيون على النظام التعليمي المتبع في المدارس النظامية.
وفي القرنين الرابع عشر والخامس عشر، قام العلماء الذين سافروا من الأناضول لزيارة المراكز العلمية في الشرق، بجمع الأعمال الرئيسية للتراث الثقافي الإسلامي وأعادوها معهم. وكان هؤلاء العلماء تابعين لمدرسة العلّامة فخر الدين الرازي 1150-1210. وكان "شمس الدين الفناري" أول ممثل لمدرسة الرازي في الدولة العثمانية. وبعد وفاته ترك وراءه 10.000 مجلد من أمهات الكتب.
وكان الممثلون البارزون لهذه المدرسة بعد "الفناري"، المُلا "يغان" وهو أحد العلماء المشهورين في عهد السلطان محمد الفاتح، و"خضر بك" أول قاضي في إسطنبول.
ولأن العلماء لم يعتمدوا التدريس وفق منهج إجباري، كان من الصعب وضع قائمة حصرية بالكتب التي كان يتم تدريسها في المدارس العثمانية في كل قرن. لكن الأساتذة حددوا مبادئ التعليم وقاموا بتدريس الكتب المرجعية في مجال تخصصهم. وكانوا يصدرون "إجازة" لمن لديه بالفعل السلطة والعلم الكافي لنقل معرفة معينة إلى من بعده من الطلاب، بمجرد وصوله إلى مستوى معين.
وتتضمن هذه الإجازات التي كان الأساتذة يصدرونها، معلومات حول الكتب التي قرأها الطالب، وفي أي فروع العلم اكتسب المعرفة والكتب التي يمكنه تدريسها، بالإضافة إلى أسماء المستفيدين السابقين من الإجازات. وتكشف معظم الإجازات التي أصدرتها المدارس العثمانية عن سلسلة من العلماء تعود إلى فخر الدين الرازي.
وهناك عدة كتّاب شاركوا في تحديد قائمة الكتب التي كونت ذهنية طلاب المدارس الدينية، مع قائمة مضافة من كتب التاريخ والسير الذاتية. "مصطفى علي غيليبولولو" الذي عاش بين 1541-1600، مؤرخ عثماني كتب مراجع هامة في مختلف المجالات، وهو أحد الذين قدموا أول قائمة مفصلة بالكتب التي تم تدريسها منذ عهد السلطان محمد الفاتح. ويعد كتاب "الكواكب السبعة" أو "كواكب الصبا" الذي كتبته لجنة برئاسة "مصطفى أفندي" وكان وقتئذٍ في منصب "رئيس الكتّاب"، أول دراسة تصف الكتب الدراسية بالتفصيل. وقد أُعد هذا الكتاب بناءً على طلب "ماركيز دي فيلنوف" السفير الفرنسي في إسطنبول.
وهناك ما يعرف بسجلات "التركة" التي تتعلق بإنشاء مكتبات في المدارس، التي يتم الاحتفاظ بها لتحديد ملكية المعلمين والطلاب المتوفين. وقد نشر المؤرخ الأدبي الأستاذ "إسماعيل إرنسال" الذي درس هذه السجلات، قوائم بالكتب التي كانت شائعة للتدريس.
لا يمكن الوصول إلى الحقيقة بدون طريقة:
يكشف التمعن في الأدلة المتاحة لا سيما السير الذاتية للعلماء العثمانيين، أن طلاب المدارس الدينية كانوا يقرأون القرآن ويحفظونه أولاً. لذلك اعتبرت معرفة اللغة العربية وفنونها الأدبية صفة أساسية في الفكر العثماني، ويعتقد أن تعلم القرآن ساعد في وضع هذا الأساس، حيث بقيت اللغة العربية اللغة الأكاديمية المشتركة للعالم الإسلامي.
والكتب الأكثر شيوعاً التي كانت تدرس في المدارس الدينية، هي كتب قواعد اللغة العربية والقواميس. وتم تدريس كتب اللغة العربية لعلماء لم يسبق لهم زيارة أي بلد عربي، مثل العلامة "محمد البركوي" الذي درست كتبه لعدة قرون (مثل كتاب العوامل في النحو و"الإظهار") لأنها وفرت طريقة أسهل لتعلم اللغة العربية.
وبصرف النظر عن حقيقة أن البركوي لم يغادر بلدة "بركي Birgi" بالقرب من إزمير حيث عمل باحثاً، لكن الكتب التي ألّفها في مجموعة متنوعة من المجالات، انتشرت عبر الإمبراطورية كلها مثل كتابه "الوصية" وهو من الكتب الدينية الأكثر مبيعاً الذي لم يقتصر استحواذه على الطلاب فحسب، بل على الجمهور ككل.
تلا تدريس كتب النحو العربي في المدارس العثمانية، كتب عن المنهجية القويمة في التطبيق العملي، حيث لا يمكن تحقيق الأهداف دون المنهج الصحيح. كما تم تدريس كتب في علم الفلك والهندسة وحساب التفاضل والتكامل لتشجيع التفكير المنهجي.
كذلك كانت كتب المنطق ضرورية لمهارات التفكير المنهجي للطلاب. وكان كتاب "إيساغوجي" للفيلسوف السرياني "بورفيري" Porphyry الكتاب القياسي في الفلسفة عبر العصور الوسطى مع ترجمتيه اللاتينية والعربية.
القرآن الكريم كتاب يحكم السلطان:
أنشأت المدارس الدينية بنية تحتية للمعرفة الأدبية والقانونية والتاريخية والاجتماعية التي شكلت أساس الثقافة والحضارة الإسلامية. وتم من خلالها تعليم كافة شرائح الشعب ابتداءً من السلاطين إلى رجال الدولة ومن طلاب العلم الضيوف إلى الأدباء.
وكان تدريس أحد الكتب المرجعية الأساسية يعتبر كافياً لتخرج الطالب من ذلك المجال، بعد ذلك يقوم الطالب بتحسين نفسه في المجال الذي ينوي التخصص فيه. وإذا واجه أية مشكلة، فهو يعرف مكان العثور على المعلومات ذات الصلة.
وقد وجد البروفيسور "إرنسال" في سجلات "التركة" كتابين أساسيين في تعليم وتخريج الطلاب، أولهما كان أشهر أعمال الفقيه الإسلامي "إبراهيم الحلبي" وعنوانه "ملتقى الأبحر"، كتب عام 1517. والعمل تلخيص لعدد من المواضيع القياسية السابقة لقضايا قضائية على المذهب الحنفي. وبالإشارة إلى أثر ذلك الكتاب، قال الدبلوماسي والكاتب جيمس لويس فارلي James Lewis Farley: "السلطان يحكم الأتراك، والقرآن والشورى يحكمان السلطان". والكتاب الآخر بعنوان "درر الأحكام" وهو يتعلق بالشريعة الإسلامية كتبه الملا "خسرو" معلم السلطان محمد الفاتح.
وكانت المدارس الدينية تعلم في المقام الأول من الأعمال الأدبية "دواوين الشعر" حيث الأدب مساحة لراحة الطلاب وسط قراءات عميقة ومرهقة. وكان الطلاب يجرون أثناء فترات الراحة بين الفصول وفي المساء المسابقات الشعرية التي يقرأ فيها أحد الطلاب مقطعاً مختاراً بشكل عشوائي من كتاب شعر، ويقرأ الطالب المتنافس مقطعاً آخر يجب أن يبدأ بالحرف الأخير من قصيدة الطالب الأول. وكانوا بهذه الطريقة يختبرون مهاراتهم في الحفظ من خلال القراءات المتبادلة. وفي حالة التعادل يستخدم الشاعر المقطع الأخير من الكلمة الأخيرة لخصمه حتى أنه في بعض المسابقات تم تلاوة آلاف الأبيات.
ووفقاً لسجلات "التركة"، فإن كتابي الشاعر الفارسي "سعدي شيرازي"، "البستان" و"غولستان" كانا من أشهر الكتب تدريساً. ومن بين الأعمال الأدبية الأكثر شيوعاً ديوان الشاعر "الجامي" وديوان "المثنوي" للفيلسوف الصوفي مولانا جلال الدين الرومي من القرن الثالث عشر، والشروحات عليهما.
بقلم: علي توفكجي