أثرى الطبيب العثماني "شريف الدين صابونجو أوغلو" الذي عاش في العصور الوسطى، عالم الطب بكتبه عن الأدوية وطرق العلاج، التي ألّفها بالاعتماد على خبرته وتجاربه العلمية الخاصة.
ومع ارتفاع عدد الوفيات الناجمة عن تفشي كوفيد-19، قررت الكثير من الحكومات في جميع أنحاء العالم إغلاق بلدانها للحد من العدوى ومساعدة أنظمة الرعاية الصحية في السيطرة على المرض. ومع ذلك تبدي الأنظمة الصحية الوطنية المجهزة بأحدث المعدات الطبية وأعداد كبيرة من العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين تم تعليمهم وتدريبهم في كليات الطب والصيدلة المتقدمة، عجزاً وحيرةً أمام الفيروس غير المرئي، الذي ظهرت آثاره المميتة لأول مرة في الصين.
أما العالم الغربي الذي أصبح الآن مركز العدوى، فقد كشف الفيروس ضعف الأنظمة الصحية فيه وهشاشة التضامن الوطني لديه.
وفيروس كورونا ليس أول وباء تواجهه البشرية، ويبدو أنه لن يكون الأخير. فانتشار الأوبئة والأمراض القاتلة كان جزءاً من الحياة اليومية في العصور الوسطى. ويعتقد أن أنواعاً من الطاعون والجدري والحصبة والإنفلونزا قتلت مئات الملايين من البشر عبر القرون.
وقد حفزت الأمراض والأوبئة محاولات تطوير الدواء لدى الأشخاص الذين يتمتعون بمعرفة واسعة في المجال الطبي والدوائي بسبب إصابة أعداد متزايدة من الناس وموتهم على مدى العصور. واستمرت هذه المحاولات في العصور الوسطى التي شهدت تقدماً عملياً في الميدان الطبي أدى إلى الوصول للطب الحديث الذي نتمتع به اليوم.
كما أن العالم الإسلامي شهد نهضة كبيرة في العديد من العلوم، بما فيها علوم الطب والصيدلة بسبب دراسة كنوز من النظريات القديمة والممارسات المعاصرة في الطب والصيدلة، حيث قام المسلمون الأوائل بدمج وتحسين التقاليد الطبية للعالم الهلنستي والفارسي القديم مع الممارسات السورية. كما تم في العصر الإسلامي تدريس عدد لا يحصى من الأطباء في المدارس المتخصصة بعلوم الطب. وتم إنشاء العديد من البيمارستانات أو ما يعرف اليوم بالمستشفيات، وتحسين المعارف والتقنيات والأدوية الجديدة.
وبعد اعتناق الأتراك الإسلام، بدؤوا تعلم فروع مختلفة من العلوم ورفد الحضارة الإسلامية، بما في ذلك علم الطب. ويحفل التاريخ الإسلامي بالعديد من الأطباء من أصول تركية. كما بدأ السلاجقة في الأناضول بدراسة علوم الطب باللغة التركية. وبحلول حكم العثمانيين على الأناضول، تم تأسيس علم الطب كمنهج تدريسي وكممارسة واسعة الانتشار في جميع أنحاء البلاد.
ومن بين أشهر أطباء الأناضول في القرن الخامس عشر "شريف الدين صابونجو أوغلو" الذي عاش ومارس الطب في مدينة "أماسيا" على البحر الأسود.
المولد والنشأة
ولد "شريف الدين" بين عامي 1485 و 1487 في "أماسيا"، التي احتلها المغول بعد ذلك. وعندما بلغ عمره 8 سنوات، ضم العثمانيون أماسيا إلى أرضهم. كان جده "مولانا الحاج إلياس جلبي" كبير أطباء السلطان العثماني "محمد الأول". درس "شرف الدين" الطب في مستشفى أماسيا وتتلمذ على يد "برهان الدين أحمد النهجواني"، وهو طبيب بارز آخر في ذلك الوقت.
وبعد التخرج عمل "شريف الدين" كطبيب في "أماسيا" لمدة 14 عاماً قبل الانتقال إلى "كاستامونو" للعمل في إمارة "جاندار أوغلو بيليك"، التي كانت تحت حكم "إسفنديار بك". وبعد فترة وجيزة، توجه الطبيب إلى إسطنبول لتقديم أحد أعماله الطبية، كتاب "الجراحة الإمبراطورية" إلى السلطان الفاتح "محمد الثاني". وما لبث أن عاد "شريف الدين" لاحقاً إلى "أماسيا" حيث توفي بعد عام 1568.
حياته العملية
خلّدت ثلاثة أعمال رئيسية كتبها "شريف الدين" اسمه ببقائها حتى يومنا هذا. الكتاب الأول يحوي ترجمة تركية لقسم "علم الأدوية" من الموسوعة الطبية التي صاغها "زين الدين الجرجاني" بطلب من السلطان "بايزيد الثاني"، الذي كان محافظ "أماسيا" في ذلك الوقت. وأضاف "شريف الدين" فصلين إضافيين إلى 31 فصلاً مدرجين في الكتاب. ويتضمن الكتاب وصفات لتحضير أدوية بدرجات متفاوتة التعقيد.
وكتابه الثاني "الجراحة الامبراطورية" عبارة عن أطلس مصور لطلاب الطب يتضمن مقاطع مصورة من العمليات الجراحية التي كانت شائعة في تلك الأيام، والذي قدمه إلى محمد الفاتح نفسه، في إسطنبول. وكتب "شريف الدين" هذا الكتاب باللغة التركية العثمانية بدلاً من العربية أو الفارسية، حيث كانت تحظى العثمانية بتقدير كبير بين اللغات في ذلك الوقت، مما جعل هذا العمل كنزاً وطنياً لتركيا. وشرح "شريف الدين" سبب كتابة "الجراحة الامبراطورية" باللغة التركية، قائلاً: "يتكلم العديد من الأطباء اليونانيين التركية أيضاً، كما أن بعض الأطباء المتعلمين لا يمكنهم القراءة إلا باللغة التركية. لقد كتبت هذا الكتاب باللغة التركية من أجل مساعدتهم على اكتساب جوهر كل موضوع والتمكن من إدارة العملية الجراحية بالشكل المطلوب".
وتوجد اليوم ثلاث نسخ من أطلس الجراحة المصور، اثنتان منها في مكتبة الدخن في حي الفاتح في إسطنبول، بينما يمكن العثور على النسخة المتبقية في "دار الكتب الوطنية" في باريس.
أما كتاب "شريف الدين" الثالث الذي ما زال موجوداً حتى يومنا هذا فهو "كتاب التجارب" وهو دليل صيدلاني يقدم وصفات خاصة لأمراض معينة. والجانب المثير للاهتمام في هذا الكتاب هو أنه يذكر تجارب "شريف الدين" الخاصة مع الأدوية المطبقة على نفسه، أوعلى أشخاص آخرين وحتى على بعض الحيوانات. كما طوّر "شريف الدين" نوعاً من الأدوية المخدرة وعرضها في الكتاب مع آثارها الجانبية كي يستفيد منها زملاؤه من الممارسين والأطباء والصيادلة.
هذا وقد اتخذ الأطباء العثمانيون كتب "شريف الدين صابونجو أوغلو" كدليل علمي وتجريبي على مدى عدة قرون. وأصبح اسمه بارزاً في تاريخ الطب في الأناضول. ويحمل المستشفى الجامعي في "أماسيا" اسمه اليوم، بينما سمي الحي الذي ولد فيه بالاسم ذاته لأشهر طبيب عثماني في عصره.