أرسلت روسيا في أعقاب الهزيمة العثمانية في معركة فيينا 1683، وفداً دبلوماسياً برئاسة سياسي يدعى "أوكرينتسيف" لإنشاء معاهدة مع الأتراك والتفاوض على شروطها.
وجاء الوفد الدبلوماسي الذي أرسله القيصر الروسي بطرس الأكبر إلى العاصمة العثمانية على متن سفينة حربية كبيرة تدعى "كريبوست" أو "القلعة" في استعراض للقوة الروسية والتفوق العسكري. وكانت السفينة تحمل على متنها 46 مدفعاً بطول 38 متراً ويعمل فيها طاقم مؤلف من 110 أفراد. وكان قبطان السفينة "بيتر فون بامبورغ" هولندياً وكذلك مساعده الرئيسي "غيندريسون".
نحو إسطنبول:
رافق "كريبوست" بعض السفن الحربية الكبيرة التابعة للبحرية الروسية. وطلبت السلطات التركية من السفينة ألا تبحر في مضيق البوسفور وأن يحضر السفير "أوكرينتسيف" إلى إسطنبول براً، لكنه رفض هذا الطلب، ووافق فقط على إعادة السفن المرافقة.
كانت السفينة "كريبوست" أول سفينة حربية روسية تمخر عباب البحر الأسود، وحين وصولها مساء يوم 12 سبتمبر 1699، رست قبالة حي "يشيل كوي". وبعد الانتظار لبضعة أيام في المرسى، تم نقل المبعوث الروسي إلى الشاطئ بواسطة زورق عثماني وتمت استضافته في فيلا خاصة. بعد ذلك توجهت السفينة "كريبوست" إلى شاطئ "سيراغليو" ورست هناك.
القبطان المخمور:
كان قائد السفينة، "بامبورغ" مولعاً بالخمر. وعند وصوله إلى المدينة، بدأ "بامبورغ" بدعوة معارفه الفرنسيين والهولنديين في إسطنبول إلى السفينة للسهر على متنها وقضاء وقت مسلٍ إلى ما بعد منتصف الليل. وفي أحد الأيام، وبعد أن احتسى الخمور برفقة أصحابه، قام "بامبورغ" وهو بحالة سُكر تام بإطلاق جميع مدافع السفينة البالغ عددها 46 في منتصف الليل؛ ما تسبب بحالة من الفوضى والهلع في المدينة.
ولحسن الحظ أن المدافع لم تكن محشوة بطلقات حقيقية إنما ملئت بمسحوق أسود لا يسبب ضرراً، وبذلك لم تتعرض المدينة لأي أذى.
لكن إطلاق المدافع أثار ضجة رهيبة في المدينة الهاجعة فدبّ الذعر في كل مكان خصوصاً في القصر. وتزعم المصادر الروسية أن السلطان نفسه خرج ليستطلع الأمر، وأن النساء الحوامل في القصر تعرضن للإجهاض بسبب الخوف المفاجئ الذي أحدثته أصوات الانفجارات الوهمية.
في الوقت نفسه، كانت الشائعات تغزو الدوائر الدبلوماسية في إسطنبول بأن الأسطول الروسي جاء إلى البحر الأسود بعشر سفن حربية ترافقه 40 سفينة، الأمر الذي زاد من قلق المسؤولين العثمانيين.
وقد أشيع أن المدافع التي أطلقت من "كريبوست" ما هي في حقيقتها إلا إشارة للأسطول الروسي لدخول البوسفور.
وفي وقت مبكر من اليوم التالي، تم إرسال المترجم والناطق باسم الحكومة العثمانية "مافروكورداتوس" إلى "أوكرينتسيف" للاحتجاج على الحادث. وطالب "مافروكورداتوس" بإقالة الربان "بامبورغ" من الخدمة واقتياده إلى مقر إقامة المبعوث الروسي لتلقي العقوبة المناسبة.
وأكد "أوكرينتسيف" انزعاجه الشديد من سلوك القبطان وأمر بالفعل بإحضاره إلى مقر إقامته للتحقيق معه. وحذر "مافروكورداتوس" من أنه إذا حدث مثل هذا التجاوز مرة أخرى، فسيتم إرسال القبطان إلى السجن وسيتم سحب السفينة "كريبوست" إلى حوض السفن. وفي اليوم التالي، حذر "أوكرينتسيف" القبطان "بامبورغ" وتم استدراك الحادث قبل أن يتحول إلى أزمة.
إسطنبول تتفحص السفينة:
تسبب وصول "كريبوست" في ضجة كبيرة في إسطنبول. وجاء الآلاف من الناس على متن قوارب وزوارق صغيرة لرؤية السفينة الروسية من قرب. كما حضر السلطان "مصطفى الثاني" ورئيس وزرائه لتفقد السفينة. كان السلطان يشعر بالقلق لقدوم هذه السفينة الكبيرة إلى إسطنبول، وأعرب عن انزعاجه الشديد لوجودها. وجاء عدد من مهندسي البحرية العثمانية لتفتيش السفينة "كريبوست" والتحري عنها. وقام المسؤولون العثمانيون بتوبيخ الأوربيين وخاصة الهولنديين لتعليم الروس بناء السفن وإمدادهم بقادة سفن وملاحين، وتم تحذير "كولير" السفير الهولندي في إسطنبول.
ووقّع "أوكرينتسيف" معاهدة في إسطنبول، لإنهاء الحرب بين البلدين في 15 يوليو عام 1700، بعد تقديم بعض التنازلات.
ووفقاً للمعاهدة، أعطيت قلعة "آزوف" للروس، بينما أعيدت بعض القلاع حول "أوزي" إلى العثمانيين. وفاز الروس بالإضافة إلى ذلك بحق الاحتفاظ بسفيرٍ دائمٍ لهم في إسطنبول.
ثم أبحرت السفينة "كريبوست" عائدةً إلى روسيا وعلى متنها 170 أسيراً روسياً. وفي عام 1704 خضعت السفينة لإصلاحات جذرية وتم تجديدها وإعادتها إلى مجدها السابق. مع ذلك، تُركت السفينة تتحلل وتتآكل قبالة قلعة "آزوف" بعد أن تمكن الجيش العثماني من هزيمة الروس عام 1711 واستعادة القلعة.