بالرغم من إمكانياته المتنوعة في مجالات عديدة من الأدب إلى الفلسفة، إلا أن "رضا توفيق بلوكباشي" ظل بطريقة أو بأخرى منشقّاً في كل مجتمع عاش فيه، وكان يصل من التهور أحياناً إلى أن يصبح غير مرغوب فيه.
يعتبر المثقفون في الحقبة الدستورية الثانية أفضل نموذج لنظام التعليم الذي ساد في عهد الإمبراطورية العثمانية. لأن كل واحدٍ منهم كان يجيد على الأقل لغةً أوروبية واحدة، إلى جانب معرفتهم المتقدمة باللغة العربية والفارسية. وقد شغلوا مناصب في مجالات مرموقةٍ كالعلوم والطب والقانون والجيش والإدارة العامة والفلسفة والفنون والأدب وما إلى ذلك. وكان كلّ مفكرٍ منهم يتمتع بفهم جيد للجماليات، ويعرف آداب وفنون الشرق والغرب معرفةً جيدة، إلى درجة أن العديد منهم نشروا أعمالهم الفنية الفردية في تلك الفترة.
كان "رضا توفيق بلوكباشي" واحداً من هؤلاء المثقفين الذين اكتسبوا معرفة وخبرةً كبيرةً في مجالات عديدة، ولم يكن التعريف به في سيرته الذاتية ممكناً من خلال تخصص واحد فقط، على عكس أقرانه من المثقفين الآخرين في تلك الحقبة، الذين عُرفوا وذاع صيتهم بواحدٍ من تخصصاتهم. فقد كان "رضا الفيلسوف"، من الشخصيات التي صنعت لذاتها اسماً مستقلاً. كان فيلسوفاً وطبيباً وعضواً في البرلمان وشاعراً وسجيناً وخصماً وأحياناً شخصاً غير مرغوب فيه، وأكثر من ذلك أيضاً. لم يكن رضا توفيق رجلاً ثابت الأقوال والمواقف، بل على العكس من ذلك، قام بالعديد من التصرفات المتناقضة خلال حياته. لعل هذا كان بسبب شخصيتة، التي اتسمت بالميل إلى رؤية الحياة كما لو كانت في حالة تغير مستمر، بدلاً من اتخاذها مساراً مستقيماً، يقول في إحدى قصائده:
أيها الجمال أنت الكارثة،
لكنني لن أقع في حبك،
رغم أنني سأكون مجنونا بك.
لا تشعر بالمهانة
لكنني لن أكون مخلصاً
حتى لو وقعت في حبك.
طفولته ونشأته:
ولد "رضا توفيق بلوكباشي" في 7 يناير 1869 وأبوه محمد أفندي حاكم ولاية "سيسر" التي تعرف الآن بـ "سفيلنغراد" في بلغاريا. كانت والدته منيرة هانم، في الأصل أمَةً شركسيةً تم اختطافها وبيعها في إسطنبول. والده، الذي كان رجلاً متعلمًا، عكف في البداية على تعليم ولده رضا توفيق وتربيته. بعد ذلك، أرسله والده للدراسة في مدرسة "صهيون"، وهي مؤسسة يهودية تعلم فيها التحدث باللغة العبرية. ثم التحق بـ"رشدية" المدرسة الثانوية العثمانية في "بيلربي" ثم في "داود باشا" ثم "إزميت"، حيث انتقل مع عائلته بسبب وظيفة والده. فقد والدته في إزميت، إذ توفيت منيرة هانم بعد إصابتها بالملاريا.
بعد وفاة والدته، انتقل رضا توفيق إلى "غاليبولو" مع والده. في عام 1884، التحق بـ"غلاطة سراي سلطاني" الكلية الملكية العثمانية، لكنه لم يتخرج منها. بعد ذلك، التحق بكلية الإدارة العامة، حيث تم فصله في عام 1890 بسبب أنشطته السياسية، إذ نشر مجلة سياسية مع زملائه في المدرسة، الأمر الذي كان محظوراً على الطلاب إبان عهد عبد الحميد الثاني.
الطبيب المعالج:
بعد إقالته من كلية الإدارة العامة، التحق بكلية الطب متبعاً نصيحة أحد أساتذته. لكنه شارك في كلية الطب في بعض الأنشطة السياسية أيضاً وسُجن عدة مرات. اعتقدت عائلة "رضا توفيق" أن الزواج من شأنه أن يساعده على جعل حياته مستقرة، لذلك تزوج من عائشة صديقة هانم، مديرة دار المعلمات عام 1895. وعينه عبد الحميد الثاني طبيباً مساعداً إلى جانب فخر الدين باشا في المستشفى الميداني، الذي كان يداوي الجنود الجرحى خلال الحرب العثمانية اليونانية عام 1897.
تخرج رضا توفيق من كلية الطب عام 1899 وبدأ العمل كطبيب. في الوقت ذاته ساعده "جناب شهاب الدين"، وهو شاعر وطبيب مشهور، في تعيينه في قسم الحجر الصحي في إسطنبول. كما عمل مفتشاً طبياً في مكتب جمارك إسطنبول. وانتخب عضواً في رابطة الأطباء أيضاً. وقد احتفظ بجميع مناصبه حتى ثورة 1908. وفي تلك الفترة، فقد زوجته عام 1903 وتزوج لاحقا من نازلي هانم.
الخصم العنيد:
عاش رضا توفيق حياته كخصم عنيد محترف. لقد كان من بين المعارضين للسلطان، وانتسب لحزب الاتحاد والتقدم، وترقي عبر صفوفه وألقى خطابات أمام جمهور إسطنبول حول الدستور والحرية، وانتخب في نهاية المطاف كعضو في البرلمان بعد الثورة. ومع ذلك، فإن دوره داخل حزب الاتحاد والتقدم لم يدم طويلا بسبب طبيعته غير المنسجمة. على الرغم من أنه كان عضواً في بعثة دبلوماسية مرافقة لطلعت باشا في زيارته إلى لندن عام 1909 فقد غادر حزب الاتحاد والتقدم وانضم إلى حزب الحرية والوفاق بعد خلافات مع أصدقائه القدامى بسبب تصرفاته المتهورة . بل ذهب إلى أبعد من ذلك وراح يعمل ضد حزبه القديم حزب الاتحاد والتقدم كما لو أنه لم يشارك في تشكيله ولم يكن من أنصاره قط. نتيجة لذلك، انقلب عليه أعضاء حزب الاتحاد والتقدم. وتم سجنه عام 1912 بعد خطاب سياسي في إسطنبول، وتعرض للضرب المبرح على يد رجال استأجرهم أعضاء الاتحاد والتقدم -في "غومولسين" وتعرف الآن بـ" كوموتيني" وهي تقع في اليونان، حيث 40% من السكان هم من الأتراك. هذا الحادث الأخير جعله يقرر ترك السياسة، وبقي خارج الساحة السياسية حتى نهاية الحرب.
"رضا توفيق" الفيلسوف والشاعر:
أصبح رضا توفيق جزءاً من الحركة الأدبية الوطنية بعد عام 1913. فترك أسلوب قصائده القديمة وبدأ الكتابة في القافية الشعبية التي كانت من ضرورات ولادة الحركة الأدبية آنذاك. بعض قصائده لا تزال تُقرأ وتُغنى إلى الآن مثل القطعة الشعرية التي تبدأ بـ" حلّقي أيتها الطيور.. حلّقي"، وهي واحدة من أفضل المقطوعات الموسيقية التي صيغت وفق القافية الشعبية. وقد أدى المغني الراحل "أحمد كايا" هذه الأغنية بشكل لا مثيل له.
يدين رضا توفيق بلقب "رضا الفيلسوف" إلى كتاباته عن الفلسفة. إذ كتب أكثر من 50 مقالة عن الفلسفة بين عامي 1914 و1922. كان يتصف بميله الفلسفي نحو الروحانية. وقد عرّف الفلسفة بأنها "علم الله والإنسان". لقد بحث في فلسفة "صنع الإنسان" لأن كل إنسان يموت في النهاية. وبالرغم من أن حياته ليست أبدية، لكن الإنسان يبحث دائماً عن علامات تجعل الكون في وئام وانسجام وجميع تلك العلامات تنبثق من المبدأ الأول، وهو الموت نفسه.
كان رضا توفيق ثرياً بارزاً. وقد كتب عن علم الجمال وانتقد القصائد الذائعة الصيت في تلك الفترة لأسباب فلسفية. وكان يعتقد أن أصل الفن هو حيرة الإنسان وشدة اندهاشه بالطبيعة وهو بتلك الفكرة يقترب من تفكير "إيمانويل كانت".
شخص غير مرغوب فيه:
لم يكن رضا توفيق متهوراً فحسب، بل لطالما وقف مع الجانب الخطأ خلال المراحل الحرجة من التاريخ. وقد أُعلن أنه شخص غير مرغوب فيه من قبل حكومة أنقرة لأنه كان من بين أعضاء اللجنة الموقعة على معاهدة "سيفر"، التي تنبأت بتقسيم الأراضي العثمانية. وعندما فازت حكومة أنقرة بحرب الاستقلال، أصبحت تلك المعاهدة باطلة. بعد ذلك، نفت حكومة أنقرة العديد من خصومها، وكان هو من ضمنهم.
عاش رضا توفيق في الخارج في الفترة من 1922 إلى 1939. وتنقل أثناء نفيه بين الحجاز والأردن ولبنان. وشغل منصب مدير الآثار في عهد الأمير عبد الله في عمان. كما زار الولايات المتحدة عام 1928. بعد عفو الجمعية الوطنية التركية الكبرى عنه، عاد إلى تركيا عام 1939.
توفي رضا توفيق في 31 ديسمبر 1949 في إسطنبول ودفن في مقبرة زنجرلي كويو.