تم بفضل الأرشيف العثماني في طرابلس لبنان الكشف عن آثار "المقبرة البريطانية" في المحافظة في شمال لبنان والتي بنيت بأمر من السلطان عبد الحميد الثاني (1876- 1909)، ثم تعرضت لاحقًا لمحاولة طمس تاريخ الإنشاء.
مقبرة الإنجليز:
أمر السلطان عبد الحميد الثاني بتخصيص قطعة من أراضي الدولة لتأسيس مقبرة لجنود إنجليز فقدوا حياتهم في حادثة تصادم سفينتين تابعتين للبحرية الملكية البريطانية قبالة مدينة طرابلس، أواخر القرن التاسع عشر.
وجرى تأسيس "المقبرة البريطانية" على قطعة الأرض التي حددها السلطان العثماني وأقيم هناك نصب تذكاري للتذكير بحادثة غرق إحدى السفينتين المتصادمتين.
بيد أن جميع الآثار والكتابات التي تشير إلى تأسيسها جرى طمسها وإزالتها، خلال عمليات دفن الجنود البريطانيين الذين ماتوا في الحرب العالمية الأولى في المقبرة وعمليات الترميم التي أجريت عليها لاحقا.
وفي مقابلة مع مراسل الأناضول، قال عضو مجلس بلدية طرابلس الدكتور خالد تدمري، إن الدولة العثمانية قامت بإنشاء مقبرة لدفن الجنود الذين ماتوا نتيجة غرق السفينة الحربية اتش ام اس فيكتوريا (HMS Victoria) التابعة للبحرية الملكية البريطانية.
وأضاف تدمري، وهو نجل مؤرّخ طرابلس الأستاذ الدكتور عمر تدمري، إن السفينة الحربية "اتش ام اس فيكتوريا" (أكبر سفينة حربية في البحرية البريطانية آنذاك)، اصطدمت في 22 يونيو/ حزيران 1893، مع السفينة الحربية اتش ام اس كامبيرداون (HMS Camperdown)، قبالة سواحل طرابلس في البحر المتوسط، ما أدى إلى غرق الأولى.
غرق في 13 دقيقة:
وأشار تدمري أن فيكتوريا التي كان يبلغ عدد طاقمها 400 بحّارًا، غرقت خلال 13 دقيقة فقط، وهي فترة قصيرة جدًا لم تسعف أفراد الطاقم في النجاة بأرواحهم، ولم ينج سوى 10-15 منهم، فيما لم تنجح فرق خفر السواحل العثمانية بانتشال سوى 6 جثث من أفراد طاقم السفينة المنكوبة.
وتابع تدمري: "ووفقًا للبيانات التي تم الحصول عليها من السفن الحربية البريطانية، فإن هاتين السفينتين أجريتا مناورات عسكرية مع القوات العثمانية في بيروت، وكانتا في طريق العودة إلى إنجلترا، عندما حدث التصادم قبالة سواحل طرابلس الشام، على مرآى ومسمع سكان المدينة.
استعراض بحري فاشل:
وأشار تدمري أن الحادث وقع عندما حاول قائد السفينة الحربية فيكتوريا تقديم عرضٍ بحري بالسفينة أمام سكان طرابلس، إلا أنه لم يتمكن من مناورة السفينة البريطانية الأخرى واصطدم بها، ما أدى إلى غرق سفينته.
ولفت تدمري إلى أن السلطات المحلية في طرابلس أخطرت السلطات العثمانية في العاصمة، الآستانة بحادثة غرق السفينة الحربية البريطانية، فأصدر السلطان العثماني وقتها، عبد الحميد الثاني، تعليمات عاجلة لتخصيص قطعة أرض تعود ملكيتها للدولة، من أجل إنشاء مقبرة للجنود البريطانيين الذين فقدوا حياتهم، كما أمر السلطان بتسوير المقبرة بجدار وإنشاء نصب تذكاري داخلها.
وأضاف تدمري أن "المقبرة البريطانية" في طرابلس، ما زالت تحتفظ بالحدود التي وضعها السلطان عبد الحميد الثاني، لكن القصة الحقيقية لبناء المقبرة كانت مجهولة ولا يعرف عنها أحد أية تفاصيل حتى وقت قريب.
وتابع تدمري: "عندما كنت طالبًا، وصلت إلى المعلومات المتعلقة بالمقبرة البريطانية في طرابلس، أثناء بحثي في الأرشيف العثماني عام 1992. حاولت تأكيد المعلومات التي حصلت عليها خلال بحث أجريته في المقبرة البريطانية في طرابلس.. ذلك أن المقبرة تعرضت للترميم عقب الحرب العالمية الأولى وكتب عليها لوحة تشير إلى أن بناؤها تم من قبل بريطانيا لهذا الغرض".
وتابع "اللوحة التي وضعها البريطانيون لم تشر أن المقبرة تم بناؤها أولًا من قبل السلطان عبد الحميد الثاني. خاصة وأن البريطانيين قاموا بهدم النصب التذكاري الذي بنته السلطات العثمانية وحفظت معلوماته في الأرشيف العثماني، ووضعوا مكان النصب صليبًا كبيرًا".
العثور على اللوحة المكتوبة بالتركية العثمانية:
وأشار تدمري إلى أن لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس، بدأت بأعمال البحث عن اللوحة التي وضعتها السلطات العثمانية والتي تحتوي على معلومات بخصوص تأسيس المقبرة، على ضور المعلومات الواردة في الأرشيف العثماني.
ولفت إلى أن أعمال الحفر والبحث التي جرت في محيط المقبرة البريطانية، أثمرت في العثور على بقايا النصب التذكاري الذي أمر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بإنشائه في المقبرة وقتئذ.
وقال: "خلال أعمال الحفر والبحث، وجدنا اللوحة التي تحمل الكتابة باللغة التركية العثمانية، وتحمل معلومات مطابقة حرفيًا لما وجد في الأرشيف العثماني.. اتصلت على الفور بالمشرف على المقبرة وطلبت منه إبراز المعلومات المتعلقة بتاريخ المقبرة".
وأشار تدمري بأن السلطات المختصة في لبنان، تحركت على الفور وقامت بتعليق اللوحة المكتوبة بالتركية العثمانية، على الحائط الداخلي للمقبرة البريطانية في طرابلس.
وأشار تدمري "أن عدم قدرة الزوار على قراءة اللوحة المذكورة يشكل عائقًا لفهمهم محتواها"، لافتًا إلى ضرورة ترجمة هذه اللوحة إلى اللغتين الإنجليزية والعربية.
وأشار تدمري إلى أن سفير تركيا في بيروت خاقان جاقيل، أجرى قبل فترة وجيزة زيارة إلى المقبرة البريطانية.
واطلع السفير على اللوحة المكتوبة بالتركية العثمانية، وأجرى بعدها لقاءً مع نظيره البريطاني في بيروت، تناولا فيه العمل على تحديث البيانات المتعلقة بتاريخ المقبرة،.
وأعرب السفير عن تمنياته في أن يتم ترجمة اللوحة إلى العربية والإنجليزية وتعليقها في مدخل المقبرة البريطانية بأقرب وقت.