مدينة القاهرة من المدن الإسلامية الغنية جداً بالآثار والأوابد التاريخية من كل العصور.
وفي قلب قاهرة المعز التاريخي، وتحديدا في أحد تقاطعات شارعي الجمالية والمعز لدين الله الفاطمي، تطالع السائر تحفة معمارية تعود إلى العصر العثماني (1517-1867م)، وهي محاطة بخليط من الأبنية الأثرية الفريدة تنتمي إلى عصور عديدة.
"الكيخيا" سابقا، ثم "بازرعة" حاليا، كانت إحدى أشهر الوكالات التجارية في مصر، وتقع في منتصف حارة "التمبكشية"، إحدى حارات حي الجمالية في القاهرة القديمة، وتعود إلى القرن السابع عشر تحديدا عام 1669، وترغب الحكومة في تحويلها إلى فندق تاريخي.
كانت الوكالة معدة لبيع الخشب، ثم اشتراها تاجر يمني، يدعى محمد بازرعة عام 1796 وخصصها لتجارة الحبوب والبن والصابون.
* العمارة العثمانية:
دخل مراسل الأناضول حارة "التمبشكية" وتجول بين أزقتها الزاخرة بتراث يعود إلى العصور الفاطمية والأيوبية والعثمانية، ما بين مساجد ومنازل عتيقة ووكالتين تجاريتين ومقاهٍ تأخذ الشكل التاريخي للمنطقة.
بعد حولي 70 م سيرا في إحدى الحارات المتفرعة من شارع المعز التاريخي، يوجد عقار ضخم رقم "25"، يبدأ بباب خشبي صغير مغلق، ويتوسط المبنى باب كبير مفتوح عبارة عن درفتين من الخشب الصلب المتين، مصفح بشرائح من الحديد، ومركب عليه مغلاق خشبي مطعمًا بالعاج، يحيطه نوع من الزخرفة انتشر في العصر العثماني، باستخدام حرف "الميم" بطريقة هندسية.
يفتح الباب الكبير على فناء يتوسط وكالة "بازرعة"، عبارة عن مساحة مستطيلة الشكل، كانت تستخدم لعرض البضاعة وممارسة أعمال البيع والشراء، حيث تفتح عليه الحواصل (أماكن تخزين البضاعة) ذات القباب الحجرية المتجاورة، والبالغ عددها 25 حاصلا، تتوزع على أضلاع الوكالة.
* تجارة وإعاشة:
الوكالة أو الفندق أو الخان، أسماء أطلقت على هذا النوع من المباني التي أنشئت منذ بداية العصر الفاطمي في القرن الـ 4 الهجري إلى نهاية العصر العثماني.
الوكالة تشغل مساحة إجمالية تقدر بـ1050 متر مربع، ولها واجهة واحدة رئيسية على حارة "التمبكشية" يبلغ طولها 25 مترا وارتفاعها حوالي 14 مترا، وتتكون من ثلاثة طوابق، الأول مخصص للتجارة وتخزين البضاعة ومن ثم عرضها في صحن الوكالة، والثاني مخصص لاجتماعات التجار وعقد الصفقات.
أما الطابق الثالث فهو جناح سكني أعد خصيصى ليكون مقر إعاشة للتجار الوافدين من مختلف الأقطار حتى إتمام صفقاتهم، وتتكون كل وحدة سكنية من قاعة استقبال ومعيشة ودورة مياه ومطبخ صغير.
ويطل الجزء السكني على الصحن عن طريق فتحات نوافذ يغلق على كل فتحة منها إما شباك أو مشربية خشبية (قِطَع خشبية مزيّنة بالنقوش الإسلامية)، وكان رواده يستخدمون الباب الصغير المغلق للصعود والنزول.
* فندق تاريخي:
عام 1996 قرر المجلس الأعلى للآثار في مصر ترميم الوكالة من شروخ أصابت معظم حوائطها، حتى أعيدت إلي صورتها الأولى تحفة للعمارة الإسلامية في العصر العثماني، ثم افتتحت مزارا أثريا، في 21 مارس/آذار 2001.
محمد عبد العزيز، مدير عام مشروع القاهرة التاريخية، معاون وزير الآثار لشؤون الآثار الإسلامية والقبطية، قال ليس في منطقة الجمالية التاريخية سوى فندق سياحي وحيد مشدداً على أهمية تحويل هذه المنشأة العظيمة إلى فندق سياحي، مثلما كانت قبل قرون خاناً للتجار.
وأوضح أن "الوكالات التاريخية تم بناؤها في الأساس لغرضين مهمين، الأول هو التجارة في الطوابق الأرضية، والغرض الثاني هو الإقامة في الطوابق العليا، وما سنقوم به في المستقبل القريب هو بمثابة إعادة إحياء وتوظيف هذه الوكالة التاريخية العريقة".
وتابع عبد العزيز: "طرحنا مشروع تحويل الوكالة إلى فندق سياحي تاريخي على أحد المكاتب الاستشارية المتخصصة، ويجري حالياً إعداد دراسات شاملة للمشروع الكبير، الذي سيحقق أرباحاً كبيرة للدولة في حال تنفيذه".
* مشروع إيجابي بشرط:
مجدي شاكر، كبير الأثريين في وزارة الآثار المصرية، رأى أن إعادة استثمار أي أثر هو أمر إيجابي جدا، حتى ولو كانت له بعض الآثار السلبية، يمكن تلافيها بالمتابعة الدورية.
وقال شاكر إن ترميم الأثر وتركه دون استغلاله يجعله عبئا على الدولة، وليس مصدر دخل كما هو في كل دول العالم.
ولفت إلى أن الترميم مكلف جدا، خاصة أن كافة الخامات تستورد من الخارج، فإذا تم استثمار الأثر بعد ترميمه سيساهم ذلك في زيادة فرص عمل وجذب عملة صعبة، ومن ثم إمكانية ترميمه حال حدوث أي آثار جانبية.
واعتبر أن "الأفضل هو إعادة الأثر إلى أصله. الفندق إلى فندق، والوكالة إلى مركز تجاري، وهكذا حتى لا يفقد معناه".
ولفت إلى أن "العصر العثماني استمر أكثر من 300 عام في مصر، والاهتمام بآثاره ليس رفاهية ثقافية، بل ضرورة حضارية وسياحية تحتاج إليها البلاد للخروج من كبوتها الاقتصادية الحالية".
* مصر العثمانية:
ومؤخرًا، أعلنت مصر اكتمال ترميم مبانٍ أثريةٍ واستكمال ترميم أخرى تعود إلى العصر العثماني، كما افتتحت أول معرض يضم لوحات وصور مخطوطات تُجسد الحياة والوظائف والملابس العثمانية.
وتمثل المساجد الغالبية العظمى من آثار العصر العثماني في مصر، ومن أبرزها في القاهرة مساجد "يوسف أغا الحين"، الذي بُني عام 1625، و"سنان باشا" (1571)، و"ميرزا" (1698)، و"سيدي عقبة بن عامر" (1655)، وفي الإسكندرية (شمال) مساجد "عبد الباقي الجوربجي" (1758)، و"إبراهيم تربانة" (1685)، و"الشوربجي" (1758).
وفي أكتوبر /تشرين الأول الماضي، أصدرت الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية بمصر (رسمية) الجزء الثالث من كتاب "الديوان العالي في مصر العثمانية"، وهو يؤرخ وقائع في العهد العثماني لمصر، ويتضمن وثائق باللغة التركية، في اهتمام لافت بالمنتج الثقافي للعصر العثماني بالبلاد.