على مر التاريخ استخدم الناس الحمام الزاجل في المراسلات، أو إشعال النيران وإعطاء إشارات بالدخان من قلعة إلى قلعة أخرى، أو رمي السهام. كان البريد والنقل من المشاكل التي تؤرق الدول ذات المساحات الشاسعة. أسست الإمبراطورية الأموية التي امتدت حدودها من المحيط الأطلسي حتى الأراضي الصينية، أقوى نظام بريد عرفه التاريخ الإسلامي. ورث العباسيون والسلاجقة هذا النظام، ثم طوره العثمانيون. وكان امتلاك العثمانيين لنظام بريد ومراسلات سريع ومنظم إلى هذا الحد من العوامل التي أدت إلى استمرار حكم العثمانيين لمدة ستة قرون في ثلاث قارات مختلفة.
كان يوجد على الطرق الرئيسية وعلى مسافة مسيرة يوم (بعد كل 35 كم) أبنية يطلق عليها "نُزل". عبارة عن فناء وحوله "خان" وإسطبل وسوق وحمام ومطعم وما إلى ذلك ويحيط بكل ذلك سور كبير. ويمكن للمسافرين المكوث في الخانات دون دفع أي مقابل كما يمكنهم إطعام خيولهم، والقيام بالتسوق والاغتسال في الحمام. وفي اليوم التالي يواصلون طريقهم. ويعمل في تلك النزل موظفون تعينهم الدولة وتدفع لهم الرواتب من أجل خدمة المسافرين.
مع الوقت تحولت تلك النزل إلى أسواق يبيع فيها أهالي المناطق المجاورة محاصيلهم ومنتجاتهم. بعد ذلك تكونت القرى والأقضية في تلك النزل.
وتُحفظ في تلك النزل أيضاً الأمتعة التي يمكن أن يحتاج إليها الجيش أثناء خروجه للحرب. وإذا اقتضت الحاجة كان الجيش يبيت في تلك النزل. وكان الموظفون المكلفون بنقل الخطابات والمراسلات (البوسطجية) يتركون خيولهم في النزل ويركبون الخيول التي تنتظر هناك كي يتسنى لهم مواصلة طريقهم بسرعة.
النوم فوق ظهور الخيل
كان سعاة البريد هؤلاء هم من يحضرون ويرسلون الأخبار من المجر إلى إسطنبول ومنها إلى سواحل بحر الهند والجزائر واليمن، وهم أيضاً من يحققون التواصل بين الجيوش. وقد صدر قانون بخصوص عمل سعاة البريد في عهد السلطان سليمان القانوني.
كان سعاة البريد ويُطلق عليهم (تتار البوسطة) يتم اختيارهم من الأشخاص الشرفاء الموثوقين. ويكونون من المتمتعين بقوام رشيق حتى يمكنه الذهاب والعودة بسرعة. ويقال إنه يتم اختيارهم في البداية من ذوي الأصول التتارية لذلك سُموا بذلك الاسم. وكان التتار شعب ماهر في ركوب الخيل.
وكانوا لا ينزلون من فوق ظهر الخيل حتى أثناء تغيير الحصان أو الفرس. وكانوا يمتطون الخيل ليل نهار ، يأكلون ويشربون وينامون فوق ظهر الخيل. وبذلك يكون ممكناً إرسال الأخبار إلى أبعد الأماكن في الدولة وخلال مدة قصيرة. وإذا لم يجد السعاة هناك خيولاً إضافية كي يستبدلوا خيولهم كان يمكنهم أن يأخذوا ما يريدون من الخيول من إسطبل الوالي.
كان هناك 300 ساعي بريد في إسطنبول وخمسون لدى كل والٍ. وكان لديهم تشكيل مهني منظم جداً. وكانوا يتمتعون بمكانة في المجتمع نظراً إلى أن كل الأفراد في حاجة إليهم. وكان هناك منهم من يتمتعون بحسن المعشر وحلاوة الحديث وكانوا طوال الطريق يمزحون ويقصون الحكايات المسلية والنكات فيهونون مشقة الطريق على من يرافقهم. وكان السفر برفقة ساعي البريد يعد فرصة لا تعوض.
مهنة شاقة
كان سعاة البريد (تتار البوسطة) يرتدون ثياباً محتشمة ومريحة في الوقت نفسه، كما كانوا يأخذون معهم معاطف من الفرو كي يرتدوها إذا اقتضى الأمر. بذلك يحافظون على صحتهم من تغير الطقس عندما يسافرون إلى أماكن عدة طقسها مختلف. وكانوا يحملون معهم أيضاً سلاحا (مسدساً) ثقيلاً، وسيفاً ثقيلاً ذا حدين، وثيابا، ومناديل، وكيسا به تبغ، وكيسا من النشوق (شمة)، وغيرها من الأشياء التي قد يحتاج إليها في طريقه، أي أنهم كانوا مخازن متنقلة.
كان تتار البوسطة يقطعون المسافة من إسطنبول إلى أدرنة في يومين، ومن إسطنبول إلى الشام في 12 يوماً، ومن إسطنبول إلى بغداد التي تبعد عنها 2300 كم في 14 يوماً فقط.
كان عبور الغابات والجبال، وعبور الأنهار دون جسور، والصحاري القاحلة، والوصول إلى المكان المنشود يعد نجاحاً كبيراً.
كان الخروج لاستقبال تتار البوسطة القادمين إلى إسطنبول حاملين معهم الخطابات والأخبار أمراً مسلياً وشائقاً. وكان آلاف الناس يحتشدون ويملؤون الطرق في انتظار الأخبار التي ستأتيهم من دول البلقان.
كان من ضمن وظائف تتار البوسطة أيضاً إحضار الأشخاص للمثول أمام المحكمة أو الدوائر الرسمية في الدولة. حتى إنهم كانوا مكلفين أيضاً إحضار رؤوس من تنفذ بحقهم عقوبة الإعدام إلى إسطنبول أو مركز الولاية. وكانت الرؤوس توضع داخل كيس مصنوع من جلد الماعز ومملوء بالعسل.
كان سعاة البريد يتقاضون مرتبات مجزية. كما كانوا يحصلون على "عمولة" تقدر بنسبة مئوية محددة من خطاب خاص أو بوليصة يحملونها. وفي حال فقد شيء مما يحملون يقوم الصندوق التابع لتشكيل سعاة البريد بتعويض قيمة المفقودات. كانت مهنة سعاة البريد شاقة جداً فلم يكونوا يمكثون في بيوتهم إلا أياما قليلة ولا يرون أطفالهم إلا مرات نادرة. وكان معظمهم ذوي شخصيات فريدة. وبسبب كرمهم الزائد لم يكونوا أصحاب ثروات، وبسبب عملهم الشاق جداً كان معظمهم يمرض ويتوفى في سن مبكرة.
كان هناك بعض سعاة البريد يقومون أيضاً بإرشاد المسافرين في الطريق. وكانوا يشتغلون أحياناً بالتجارة على نطاق ضيق. وهؤلاء يستطيعون المكوث في بيوتهم فترات أطول.
مكاتب البريد
في بداية القرن التاسع عشر بدأ تأسيس مؤسسات البريد الحديثة. وتحولت النُزل إلى مكاتب بريد. وكان البريد ينقل بواسطة العربات وبعد ذلك استخدمت القطارات والسفن. وكان تتار البوسطة يستلمون الطرود البريدية من محطات القطارات أو الموانئ ثم يوصلونها إلى الأماكن المطلوبة.
كان ساعي البريد يخرج لنقل البريد بصحبة سائق وفرسان من الجاندرما للحماية وبغال مخصوصة لحمل الطرود البريدية. وكانت الطرود البريدية توضع داخل حقائب مغلقة جيداً ومغلفة بجلد لا يسرب الماء. ويكون السائق أو الدليل في المقدمة تتبعه الطرود وفي المؤخرة يكون كبير السعاة، الذي ينادي بصوته الجهور "بوسطا" أي وصل البريد؛ ليخبر الناس بوصول البريد. ليقوم الناس بالتجمع أمام النُزل. وكان البريد القادم من الشام ومن البلدان الموجودة في الجنوب ينقل بواسطة إبل الهجن.
يقوم سعاة بريد مدنيون بتوصيل الطرود البريدية التي تصل إلى محطات القطار أو الموانئ أو مراكز المدن إلى القرى والبلدات البعيدة. وتقوم الدولة بعقد مناقصة وتكليف من يعرض أقل سعر للقيام بهذه الوظيفة. وقد استمر ذلك النظام حتى بعد إعلان الجمهورية. وإذا كانت المسافة بين بلدتين ما بعيدة جداً يقوم سعاة من كلا البلدتين بالالتقاء في مكان ما في منتصف المسافة ويسلم كل منهما الآخر.
كانت هناك مكاتب بريد خاصة بالأجانب أيضاً في الدولة العثمانية. وقد أدت المنافسة معها إلى تطوير مؤسسات البريد الرسمية. وفي الأماكن التي لا يوجد فيها مكاتب بريدية كان تتار البوسطة يقومون بهذا العمل بشكل خاص. وكانوا يتقاضون أجرة إضافية مقابل كل طرد بريدي أو خطاب يحمل طابع بريدي من مستلم البريد. في البداية كان المستلم هو من يدفع أجرة البريد. في عام 1863 بدأ استخدام الطوابع البريدية وأصبح مستلم البريد لا يدفع أي أجرة.
طريق العودة
يقول الأميرال الإنجليزي السير " أ. سلاد" الذي طاف الأناضول في بدايات القرن التاسع عشر:
"كان تتار البوسطة" أشخاص يتمتعون بالوسامة والرشاقة. كانوا يمثلون رمزاً للحياة والسعادة والصحة، أثناء خروجهم في الطريق بدءا من إسكودار. وكانوا يعتنون جيداً بمظهرهم وهندامهم. وكانوا فرسانا يستحقون المشاهدة بمظهرهم الرائع يرتدون قبعات منحنية للأمام قليلاً ويرتدون ثياباً فخمة ويمسكون مسدسات مرصعة بالفضة وعصي مقابضها من الكهريبار (الحجر السليماني). ولكن يجب أيضاً رؤيته حين عودته من رحلته. إذ تتبدل هيئته ويصفر وجهه وتحترق بشرته من الشمس ويكسو التراب شعره ولحيته ويعتريه التعب والإرهاق لدرجة أن أمه التي ولدته لا تستطيع التعرف عليه. ويصبح غير قادر على امتطاء فرسه مرة أخرى إلا بمساعدة الغير من شدة التعب والإرهاق.