يعد العسل واحداً من أقدم الأطعمة في تاريخ الإنسانية... ليس فقط طعاماً بل أيضاً يعد علاجاً.. وفيما يلي نستعرض حكاية العسل الذي يعد أيضاً من طعام أهل الجنة.
تصور الكتب المقدسة الجنة على أنها مكان تجري فيه أنهار من العسل. كما يضم القرآن الكريم سورة تامة باسم "النحل" وبها آية تقول إن في عسل النحل شفاء للناس: " يخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ " (النحل 69).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بعسل النحل لعلاج آلام البطن، كما كان صلى الله عليه وسلم يحب شراب العسل.
انظروا إلى هذا النحل
يُعد النحل من الحشرات المقبولة في الثقافة الإسلامية. وهو رمز العمل الدؤوب وإتمام العمل على أكمل وجه من أجل منفعة الناس. ترى الفلسفة المادية النمل على أنه رمز العمل الدؤوب رغم أنها حشرات غير منتجة، إلا أن ثقافة الشرق تعتبر النمل رمزا للإصرار على تحقيق الهدف. ولا يُعد النمل من الحشرات المقبولة في ثقافة الشرق. ولذلك اُستخدم النحل كرمز لبعض المدن والدول في العصور القديمة. ومدينة أفس القديمة واحدة من تلك المدن. كما كان النحل شعار حزب الوطن الأم "آناب" الذي أسسه تورغوت أوزال رئيس الجمهورية التركي الأسبق.
قيام النحل بصنع بيوته في صورة شكل سداسي منتظم أمر يسترعي الانتباه. فلو كان النحل يصنع بيوته على شكل مربع كانت زواياه ستظل خالية نظراً إلى الشكل الأسطواني لجسد النحل. أما لو كان يصنعها على شكل دائري لكانت ستنشأ فراغات بين تلك البيوت حال تراصها إلى جوار بعضها بعضاً؛ لذلك فهو يصنع بيوته على شكل سداسي منتظم لأنه الأقرب إلى الشكل الدائري كما أنه لا تكون هناك فراغات لا حاجة إليها عند اتحاد البيوت مع بعضها.
.
كيس مملوء بالعسل
استعمل عسل النحل في البداية كعلاج. وفي عام 400 قبل الميلاد كان الطبيب المشهور "هيبوقراط" (أبقراط) يعالج أمراض القلب والرئة بالعسل وكان يستخدمه لمداواة الجروح. كما يعد العسل مطهراً وقاتلاً للجراثيم لذلك كان يستخدم في العصور القديمة في عمليات التحنيط. وقد عُثر على 13 كغم من العسل عمره 4000 آلاف عام في طبق خشبي في مقبرة "توت عنخ آمون". وكان العسل على حالته دون أن يفسد.
تم ترويض النحل ووضعه في الخلايا لأول مرة في الأناضول وكان ذلك بداية حضارة كبيرة. وتعلم اليونانيون تربية النحل وإنتاج العسل من المصريين القدماء. وكانوا يستخدمون العسل في حفظ جثث الموتى. وتم حفظ جثمان الإسكندر الأكبر في العسل. كذلك كان الآشوريون يدهنون أجساد موتاهم بالعسل قبل تكفينها. وفي العصور القديمة كانت رؤوس المحكوم عليهم بالإعدام توضع داخل أكياس مصنوعة من الوبر مملوؤة بالعسل وتُرسل إلى عاصمة البلاد. حتى في القرى يضع الناس الزبد داخل آنية مملوؤة بالعسل لحفظه لفترات طويلة.
كان العثمانيون يقدمون لضيوفهم أولاً ملعقة من العسل، وكانوا يصنعون معظم الحلويات والمشروبات باستخدام العسل. كان السكر نادراً ويتم الحصول عليه بصعوبة لأنه منتج صناعي. وفي سنوات المجاعة والجفاف التي حدثت في النصف الأول من هذا القرن كان العسل هو الحلوى الوحيدة تقريباً في كل الأناضول.
كان العسل طعاماً محبباً وكان موجوداً بوفرة. وهناك أنواع من الحلوى تصنع خصيصى بالعسل ولا تصح بغيره. منها حلوى "بقلاوة العسل" التي تشتهر بها منطقة البحر الأسود. وحلوى الكستناء بالعسل المشهورة في ولاية بورصا. وكانت تُقدم حلوى الـ"بزديرما" بالسمن والعسل للضيوف في ولاية إزمير. كما تنتشر في تركيا عادة تناول الزبادي بالعسل.
العسل المجنون
يروي المؤرخ سترابو كيف هـُزم جيش القائد الروماني بومبيوس أمام ملك البونتس "ميثريداتيس" على النحو التالي:
"أقام الجيش الروماني معسكراً له على سواحل البحر الأسود. وهناك أخذ الجنود يأكلون بكثرة من العسل الذي وجدوه في المنطقة والذي صنعه النحل من رحيق أزهار سامة موجودة بالغابة قرب المنطقة التي عسكروا فيها. أصيب من تناول القليل من العسل ببعض نوبات الهلوسة بينما أصيب من أفرطوا في تناوله بالجنون. ولم يجد جيش ميثريداتيس صعوبة في هزيمة هؤلاء الجنود."
نوع الزهرة التي يصنع منها النحل العسل مهم جداً إذ إنه ينعكس على نوع العسل أيضاً.
ويطلق على العسل المنتج من الأزهار البرية التي تسمى "ورد الجبل" في منطقة البحر الأسود اسم "دلي بال" وتعني العسل المجنون. ويمتاز بمذاقه المر نسبياً. ويقال إن ملعقة صغيرة منه يومياً مفيدة في علاج أمراض المعدة والأمعاء. بينما يؤدي الإفراط في تناوله إلى تسمم تبدأ أعراضه في غضون ثلاث دقائق إلى ساعتين وتبدأ بغثيان وقيء ودوار وانخفاض في ضغط الدم، وفي بعض الأحيان يؤدي الإفراط في تناوله إلى توقف القلب. ويعد تسمم هذا النوع من العسل من ضمن أنواع التسمم الغذائي الموجود في تركيا. ويمكن الشفاء منه إذا حدث تدخل طبي سريع.
ليكن العسل طعامك
في يوم من الأيام دخل أحد القرويين ديوان السلطان محمد الفاتح ودعا له قائلاً " أيها السلطان العظيم ليكن صباحك خيراً وطعامك العسل، وطريقك الحدائق والرياض." أُعجب السلطان كثيراً بهذا الدعاء وأمر للقروي بمكافأة سخية.
اندهش الحاضرون من ردة فعل السلطان لأن القروي لم يقل شيئاً مميزاً أو جديداً فرد عليهم السلطان محمد الفاتح قائلاً " ماذا كان ليفعل؟ لقد دعا لي بأفضل مكان وأفضل طعام يعرفهما."
تنقسم أنواع العسل بحسب أنواع الزهور التي ينتج النحل العسل من رحيقها. وتعد تركيا الأولى عالمياً في إنتاج عسل "الصنوبر" . ويكثر إنتاجه بمنطقة مرمريس جنوب غربي البلاد. ويمتاز بطعمه الحلو قليلاً ولونه الداكن. ويمكنه البقاء لمدة طويلة قبل أن يتبلور. يمتاز العسل المنتج من رحيق الأزهار برائحته النفاذة ومذاقه الحلو.
يُطلق على الأيام الأولى من الحياة الزوجية اسم "شهر العسل". وتُفسر رؤية العسل في المنام بالخير والبركة. كما يعد العسل في الأدب رمزاً ومقياساً للجمال والحسن والحلاوة.