اتسم عهد السلطان سليمان القانوني ببناء معالم هامةً باتت فيما بعد هوية عالمية لمدينة إسطنبول إلى يومنا هذا. وعندما أمر السلطان القانوني المهندس المعماري سنان ببناء مسجد باسمه، اختار المعماري الكبير أحد التلال المطلة على القرن الذهبي، كموقع فريد للمشروع.
تم رسم مخططات المجمع أولاً لإظهار كيف سيبدو البناء عند اكتماله. وتوقع الجميع أن يضيف المسجد لمسة سحر على المدينة من خلال تناغم المسجد مع التل الذي بني عليه وانطباع ظله على المنحدرات المحيطة به.
وثائق تاريخية كثيرة تحمل أدق التفاصيل جمعت حول مجمع السليمانية وقام المختصون في معهد التاريخ الاقتصادي التركي بترجمتها وأضيفت إليها تقييمات ودراسات تحقيقية للمؤرخ "عمر لطفي باركان" ثم صدرت في كتاب بعنوان "جامع السليمانية وتشييد العمارة" بالاضافة إلى عدة كتب أخرى تحدثت عن تشييد هذا الصرح الفريد.
حجر الأساس الأول:
عمل المعماري سنان أولاً على رسم المخططات وتنفيذ نموذجٍ مصغر للمجمع بأدق تفاصيله. بعدها قام بتوسيع موقع البناء وتسويته. وبحلول يونيو 1550، انطلق العمل ببناء مجمع السليمانية، الذي يضم مسجد السليمانية الحالي.
حضر السلطان سليمان القانوني حفل وضع حجر الأساس بنفسه. وتم خلال الحفل توزيع الصدقات على الفقراء، الذين دعوا بالخير للسلطان والبلاد، وقدمت الأضاحي أيضاً كجزء من الاحتفالات. وقام "شيخ الإسلام أبو سعود أفندي" بوضع حجر الأساس الأول للمحراب المتجه نحو القبلة، بحضور رجال العلم والدين ورجال الدولة وجمع غفير من عامة الشعب، وذلك بعد تلاوة آيات من القرآن الكريم، وتلاوة الصلوات على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
استمر بناء المجمع لسنوات، وتم جلب المواد والحرفيين من كل أركان الإمبراطورية العثمانية. وراحت السفن والعربات تجلب الحجر والرخام والطوب والرمل والأخشاب من مدن وأماكن عديدة مثل "داوود باشا" و" خازندار" و"إزميت" وغيرها.
كما تم إحضار اثنين من أعمدة الغرانيت العملاقة من إسطنبول، وأُحضر آخران من "بعلبك" في لبنان. وكذلك استخدم الرخام من أنقاض المباني القديمة في "سالونيكا" و"إزنيق" و"غزة".
وتم شواء الآجر في أفران "هاسكوي" و"غيليبولو". أما الخشب فقد تم إحضاره من "أهولو" و"أيازي" و"إيدوس" وجبال "إسترانكا" و"إزميت" وغيرها. وتم إحضار المشابك الحديدية الداخلية التي تدّعم حجارة المسجد من "ساماكوف". وتم شراء الرصاص المستخدم لتغطية القباب من مناجم صربيا. كما صنع السيراميك والبلاط في إزنيق وإسطنبول.
لم يكن العمل في موقع البناء يتوقف إلا في أيام الجمعة والأعياد الدينية. واستمر حتى في فصل الشتاء. وقد شارك فيه عمال البناء والنجارون وعمال الزخارف والحمالون والموظفون الاداريون، وسائقو الحفارات الأرضية، على مدى سنوات.
وكانت الهدايا والمشروبات المحلاة بالعسل والأضاحي توزع عند انتهاء مراحل معينة من البناء، مثل إغلاق القبة، أو إنجاز السقوف أو تنصيب الأقواس الرئيسية أو عند اكتمال المباني المحيطة بالمسجد.
كما شارك عدد كبير من الحرفيين المهرة في بناء مسجد السليمانية. وقام الخطاطان "أحمد قرة حصاري" و"حسن جلبي" بتنفيذ أعمال الخط العربي في المسجد، وأنجز "قرة ميمي" جميع اللوحات المرسومة باليد. وعمل "حجي محمد" على زخرفة الزجاج والرسم عليه، و"نقاش محمد" على الزخرفة والتلوين، و"أوسطة أحمد" على الفنون الخشبية. أما البوابة الرئيسية للمسجد فهي من صنع الحرفي الماهر "صوفي صالح" وبوابة الفناء من إنجاز "حجي صالح" أما المحراب فصنعه "كونيالي يحيى".
اكتمال المجمع في 7 سنوات:
أُغلقت القبة المركزية للمسجد، التي يبلغ قطرها 27.4 متر، عند فجر يوم 16 أغسطس من عام 1556. وتم الانتهاء من المآذن في ديسمبر من نفس العام. واكتمل العمل في مجمع السليمانية في فترة قصيرة نسبياً وصلت إلى سبع سنوات، بعد إنفاق ما يقرب من ثلث الميزانية النقدية السنوية للإمبراطورية. وقد أنفق ما يقرب من ثلثي المبلغ على الحرفيين والعمال، والثلث المتبقي على المواد.
وأُحضر حصير المسجد المصنوع من القش من مصر، ونُسج سُجّادُه غرب الأناضول. جُهّز المسجد أيضاً بمكاتب للقراءة ذات صنعة بديعة، ونسخٍ من القرآن الكريم كتبها خطاطون بارزون أدهشوا الناس بمهارتهم.
بعد سبع سنوات وأربعة أشهر من بدء البناء، افتُتح مسجد السليمانية في يوم الجمعة 15 أكتوبر 1557. وخلال حفل الافتتاح الكبير، سلّم المعماري سنان مفتاح المسجد للسلطان سليمان القانوني، الذي سأل الحضور عمن يستحق فتح المسجد باعتقادهم، فأجاب قائد الشرطة: "أيها السلطان، لقد عمل مهندسك المعماري بجد، وهو يستحق هذا الشرف بحق". عندها، التفت السلطان إلى المهندس وقال: "من الأفضل أن تفتح أنت بيت الله الذي شيدته بنفسك"، ومنحه المفتاح بعد الدعاء. وفتح المعماري سنان المسجد وهو يصيح "يا فتاح.. يا فتاح!".
مجمع مترامي الأطراف:
بني مجمع السليمانية على مساحة 60 هكتار، وتم تصميم المباني داخل المجمع على شكل U، مع تشييد المسجد في الوسط. ويتكون المجمع من مجموعة من المباني تحتوي على مسجد، وأربعة مدارس، وكلية الطب، ودار الحديث الشريف، ومستشفى، ودار القرّاء، ومدرسة ابتدائية، ومدرسة البحوث وعدد من الغرف، ومطبخ واسع، ومطعم، ونزل، وحمام، ومزارات والعديد من الأسواق مع الكثير من المتاجر.
وقد استمر بناء بعض المدارس التابعة للمجمع بعد افتتاح المسجد. وتم الانتهاء من بنائه بالكامل عام 1559.
وذكر الرحالة العثماني "أولياء جلبي" في مؤلفاته أن المجمع بأكمله يضم 1000 قبة وقد عمل فيه حوالي 3000 شخص.
القوة التنظيمية للعثمانيين:
في الوقت الذي تم فيه الانتهاء من بناء مجمع السليمانية بالكامل في تسع سنوات، تم تشييد مباني هامة أخرى في جميع أنحاء أوروبا على مدى فترات أطول بسبب نقص الأموال والأوبئة والثورات والحروب. فعلى سبيل المثال استغرق بناء كاتدرائية نوتردام في باريس حوالي 182 عاماً، واستغرق بناء كاتدرائية جديدة في سالامانكا الإسبانية 220 عاماً، وبناء كاتدرائية سيغوفيا في إسبانيا 52 عاماً. وبالمثل، بُني دير جيرونيموس في البرتغال خلال 106 عام، ودير باتالها في البرتغال 134 عاماً، وكاتدرائية كولونيا في ألمانيا في 632 عاماً، وكاتدرائية فلورنس في فرنسا 120 عاماً، وكنيسة القديس بطرس في الفاتيكان في 120 عاماً، وكنيسة القديسة ماري في بولندا في 27 سنة.
يذكر أن بناء المسجد الجديد في منطقة "إمينونو"، الذي بُدأ عام 1597 في وقت كانت فيه الإمبراطورية العثمانية تفقد عظمتها، استغرق 60 عاماً.
إن إنجاز مجمع السليمانية في تسع سنوات، يوضح القوة التنظيمية والاقتصادية للإمبراطورية العثمانية في ذلك الوقت. ويحتوي كتاب "عمر لطفي باركان" التاريخي، الذي تم إعداده بعد بحث دقيق، على أدلة كثيرة تثبت العمل المنضبط والقدرات التنظيمية العالية للعثمانيين في ذلك الوقت.