بدأ التنافس العالمي بين القوى العالمية يؤثر على جميع أنحاء المعمورة. وصار من الضروري للقوى العالمية التي لا تملك القدرة على التنافس، إعطاء الأولوية لبعض المناطق على الأخرى. فعلى سبيل المثال، تعطي الولايات المتحدة الأولوية لمنطقة المحيط الهادئ وخاصة منطقة بحر الصين الجنوبي، على المناطق الأخرى. وبناءً عليه، تعتقد الولايات المتحدة بضرورة الانسحاب نسبياً من بعض أماكن نفوذها. وبالتالي، السماح للقوى العالمية الأخرى بشكل غير مباشر بملء فراغ السلطة، بمعنى أن الولايات المتحدة تعمل على قطع الغصن الذي تجلس عليه.
أما حلفاء واشنطن أي الدول الأوروبية، فهم يتبعون أيضاً سياسة مماثلة للولايات المتحدة، ويفضلون أن تكون لديهم علاقة هرمية مع شركائهم. ويشكل هذا المنظور، أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الدول الأوروبية إلى تحويل تركيا إلى ما يعرف بـ "بلدان أخرى". وفي الآونة الأخيرة، واجه الغرب العديد من المشاكل والتحديات في الحفاظ على هيمنته العالمية وتجلت تلك التحديات القوية في ثلاثة سياقات مختلفة:
بادئ ذي بدء، واجه الغرب وما يزال تحديات داخلية، وأدى ظهور كراهية الأجانب والعنصرية والتطرف إلى تغيير جذري في العقلية الغربية تجاه الآخرين. وبدأ جزء كبير من الغرب ينكر قيمه التقليدية والسوق الحرة والديمقراطية الليبرالية. كما بدأت الأحزاب والشخصيات السياسية الراديكالية في تمثيل التفاهم السياسي السائد. وفي الوقت الحاضر، صار من الطبيعي أن نرى أشخاصاً قوميين متطرفين وأحزاباً سياسية شريكة بصنع القرار، يصلون إلى السلطة في الديمقراطيات الغربية.
ثانياً، تقوم الدول الغربية بتبديل حلفائها في أجزاء مختلفة من العالم. كما فعلت الولايات الأمريكية حين مهدت عن قصد أو عن غير قصد الطريق للتوسع الروسي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وشرق البحر الأبيض المتوسط. وأدت السياسة المترددة للولايات المتحدة تجاه الأزمة السورية إلى التدخل الروسي عام 2015، والذي انتهى بتحصين روسيا لقوتها العسكرية في البلاد، وإلى وقوفها في صفّ الجنرال الانقلابي خليفة حفتر ما أدى لاستثمار موسكو بكثافة في الأزمة الليبية. وبالرغم من تحذيرات بعض أعضاء الناتو مثل تركيا وحتى بعض المؤسسات الأمريكية مثل أفريكوم، فضلت الولايات المتحدة التزام الصمت بشأن تعزيز القوة الروسية في ليبيا.
علاوةً على ذلك، استبعدت الولايات المتحدة على مدار العقد الماضي، وعزلت معظم حلفائها في الشرق الأوسط، وظلت غير مبالية بالمخاوف الأمنية لحلفائها، واتبعت سياسات أحادية وتدخلية تجاه الأزمات الإقليمية. وحاولت الحكومة الأمريكية في بعض الحالات معاقبة حلفائها في المنطقة. مثل موافقة الكونغرس الأمريكي على قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب المسمى "غاستا"، الذي يحمّل القيادة السعودية المسؤولية عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية.
وبالمثل، فقد اتخذت الحكومة الأمريكية بإصرار العديد من الخطوات المعادية لتركيا، وتخلت عن سياستها المتوازنة وبدأت بدعم الجانب اليوناني في منطقة شرق البحر المتوسط. وواصلت سياستها المتحيزة جنوب القوقاز أيضاً. ولم تفعل مع الدول الغربية الأخرى مثل فرنسا شيئاً بشأن الاحتلال الأرمني غير الشرعي للأراضي الأذربيجانية لعقود. وعلى العكس من ذلك، حاولت الحكومة الأمريكية معاقبة تركيا وأذربيجان على تحرير أراضي إقليم قره باغ.
وفي نهاية المطاف، حاولت كل هذه "الدول الأخرى" المنفردة تقليل اعتمادها على الغرب وتحسين علاقاتها مع القوى الإقليمية والعالمية غير الغربية. ولا تزال هذه الدول تعمل على تنويع هياكلها الاقتصادية وكذلك شركائها الأجانب. فيما تحاول الدول غير الغربية التخلص من سياسات الاستعمار الجديد. والأهم من ذلك، هو إطلاق هذه الدول منصاتٍ إقليميةً لحل القضايا المحلية والإقليمية. وهذا هو السبب في أن النزعة الإقليمية آخذة في الارتفاع في أجزاء كثيرة من العالم.
ثالثاً، الغرب مرتبك حول كيفية تحدي القوى العالمية الصاعدة. وأحد أسباب ذلك هو أنه لا توجد دولة في الوقت الحالي، تدعي الهيمنة بما في ذلك الصين. ولا توجد دولة حتى الصين، تسعى إلى توفير المنافع العامة العالمية، التي يقدمها الغرب عادةً. كما أن العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة لا يريد توفير المنافع العامة العالمية مثل الأسواق الليبرالية والسلام والاستقرار الدوليين. وهكذا، فقدت القوى العالمية الغربية الثقة في الجزء غير الغربي من العالم.
بالإضافة إلى ذلك، تواصل الدول الغربية اتباع سياساتٍ استعماريةً تقليدية في الأجزاء غير الغربية من العالم. لذلك، تحاول العديد من الدول غير الغربية تحسين علاقاتها مع الدول العظمى غير الغربية مثل الصين. وبدلاً من انتقاد نفسها، تواصل الدول الغربية إلقاء اللوم على الآخرين في الفوضى العالمية وعدم الاستقرار السياسي. وبالرغم من أن العالم قد غيّر تقريباً كل جانب من جوانب الحياة، إلا أن الغرب ينكر تغيير منظوره للعالم أو تغيير نفسه.
التواجد في إفريقيا
تفضل معظم الدول غير الغربية بما في ذلك دول إفريقيا الواقعة جنوب الصحراء، تحسين العلاقات مع الصين وروسيا على الدول الغربية. وتُعتبر السياسات الصينية والروسية أكثر قبولاً من المنظور الغربي الأحادي والتسلسل الهرمي. فعلى الأقل، تجلس الدول غير الغربية على طاولة المفاوضات وتناقش القضايا الإقليمية مع الدول الأفريقية. وفي الآونة الأخيرة، أكد الجنرال ستيفن تاونسند القائد السابق للقيادة الأمريكية في إفريقيا، أن الصين قد فازت في المنافسة على الولايات المتحدة والغرب عموماً، في إفريقيا. وأكد أن الصين انتصرت في المقام الأول من خلال الوسائل الاقتصادية والدبلوماسية، وكذلك من خلال استثماراتها في البنية التحتية في جميع أنحاء القارة. وبمعنى آخر فإن القوى العظمى غير الغربية تقدم للقوى الصغيرة والمتوسطة أكثر مما يفعل الغرب.
وصار التدخل الأحادي وسياسة المشاركة الانتقائية للغرب تأتي بنتائج عكسية. لكن الدول الغربية تفضل إلقاء اللوم على القوى العظمى غير الغربية في تغيير قواعد اللعبة من خلال مراعاة اهتمامات واحتياجات الدول الأفريقية. وفي النظام العالمي الانتقالي وغير المستقر اليوم، بدأت القواعد الجديدة تهيمن على السياسة العالمية. لذلك، من المستحيل أن يحافظ الغرب على هيمنته العالمية بقواعد قديمة الطراز. ومن الواضح أنه إذا لم يغير الغرب منظوره الأحادي والتسلسل الهرمي، فسوف يستمر في التراجع في جميع أنحاء العالم.