واجهت تركيا واليونان صراعاً حاداً منذ أوائل الستينيات بسبب قضية قبرص التي لا تزال تشكل محور التوتر في العلاقات الثنائية التركية اليونانية. وبعد فترة وجيزة من استقلال جزيرة قبرص عن الحكم البريطاني، بدأت الأغلبية اليونانية أولاً في تهميش الأقلية التركية، ثم حاولت ترهيبهم وقمعهم. وبينما دعمت اليونان السياسات القمعية للقبارصة الروم، حاولت تركيا كدولة ضامنة، منع الفظائع ضد الأقلية التركية. وما لبثت بعد ذلك أن ساهمت قضايا أخرى منبثقة بشكل رئيسي من بحر إيجه، في تعزيز التوترات وإضرامها بين البلدين الجارين.
ولم يتحول التوتر بين هذين البلدين إلى حرب إقليمية، وذلك بسبب عضويتهما في الناتو وسياسة التوازن التي كانت تتبعها الولايات المتحدة والتي واظبت على التدخل وتخفيف التوتر كلما تصاعد في العلاقات التركية اليونانية.
لكن واشنطن قامت مؤخراً بتغيير سياستها بشكل كبير لصالح الجانب اليوناني، وأنشأت 9 قواعد عسكرية مختلفة على الأراضي اليونانية، قبل أن ترسل كميات كبيرة من الأسلحة إلى اليونان، تم تخصيص بعضها في جزر بحر إيجة. وبالتالي، فقد دعمت حكومة الولايات المتحدة بشكل غير مباشر خرق اليونان للقانون الدولي، حيث تتمتع هذه الجزر وفقاً للمعاهدات الدولية بوضع منزوع السلاح.
بعد ذلك عمدت الولايات المتحدة إلى رفع حظر الأسلحة المفروض منذ فترة طويلة على القبارصة الروم. كما واصلت اتباع سياسة مناهضة لتركيا ليس فقط في شرق البحر المتوسط ولكن في الشرق الأوسط أيضاً من خلال الأزمة السورية إذ راحت تدعم بكل الوسائل تنظيم واي بي جي/بي كي كي الارهابي.
ولا تزال الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى غير مبالية بالاستفزازات اليونانية ليس فقط ضد تركيا ولكن ضد العمليات العسكرية لحلف شمال الأطلسي أيضاً. فعلى سبيل المثال، تحدّت اليونان حلف الناتو من خلال مضايقة الطائرات التركية واستخدام صواريخ أرض - جو يونانية من طراز إس-300 كي تحاصر الطائرات المقاتلة التركية من طراز إف-16 أثناء قيامها بمهمة استطلاع في المجال الجوي الدولي. ومع ذلك، لم تنتقد أي دولة غربية اليونان بسبب هذا الاستفزاز.
وعندما سُئل المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس عن احتجاج تركيا ضد الولايات المتحدة لتزويدها اليونان بمركبات عسكرية، اعترف بأن الولايات المتحدة تطبق معايير مزدوجة بشأن بنود مبيعاتها العسكرية لليونان وتركيا. وعندما سئل عن استخدام معايير مختلفة تجاه حلفائها، أشار إلى أن "المعيار الذي نستخدمه هو ما يصب في المصالح القومية لأمريكا". وبعبارة أخرى، اعترف برايس بأن السياسات الأمريكية المتغيرة مؤخراً تجاه المنطقة تميل لصالح اليونان، ما جعل واشنطن تصبح جزءاً من التوتر الإقليمي.
ومن الطبيعي أن لا تشعر بعض الأوساط السياسية اليونانية بالرضا عن الاستثمارات العسكرية الأمريكية في البلاد، لأنها تعرف مدى صعوبة التخلص من هذه القوات الأجنبية على أراضيها. حتى أن البعض يزعم أن الولايات المتحدة كانت تنقل اليونان إلى دولة مواجهة أمامية ومفتوحة لتهديدات مختلفة، كبديل عن تركيا التي كانت بمثابة واجهة خلال الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفيتي. أي أن البعض يعتبر الحشد العسكري الأمريكي في اليونان إجراءً لتقليل أهمية تركيا في الناتو، لكنهم بذلك يتناسون فقد نسوا الفرق الكبير بين اليونان وتركيا ومساهمتهما في التحالف. إذ لا يمكن لليونان أبداً سد الفجوة العسكرية التي أحدثتها تركيا، وبالتالي فإن مثل هذه المحاولات لن تكون مثمرة بالنسبة للتحالف.
وبالرغم من أن الحرب الأوكرانية الروسية تعتبر الشاغل الأكبر بالنسبة لحلف الناتو، إلا أن التوتر التركي اليوناني يهدد أيضاً مستقبل الحلف بسبب السياسات المتحيزة للولايات المتحدة لصالح اليونان. ومن الممكن أن يتسبب قيام حرب ساخنة بين البلدين في حدوث تشققات وأزمات داخل التحالف. لكن الولايات المتحدة لا تمانع على ما يبدو في خسارة تركيا، الأمر الذي سيشكل تصدعات عميقة في مستقبل التحالف وستكون تكلفته باهظة للغاية.
ومع أن الناتو كان يحاول التوسط بين البلدين ويدعوهما إلى عدم تصعيد التوتر، إلا أنه لا يمتلك آلية مستقلة وفعالة لمنع نشوب صراع بين الحلفاء. وإذا لم يحل الناتو النزاعات بين حلفائه فقد يصاب بالشلل. وقد تجبر الحرب الأوكرانية الروسية حلفاء الناتو على اتباع سياسات مختلفة إن لم تكن متعارضة. لذلك، يتعين على الناتو تطوير آلية عسكرية أو سياسية لحل النزاعات داخل الحلف. وبمعنى آخر، قد يجبر تصعيد الصراع التركي اليوناني الناتو على إجراء بعض الإصلاحات لمنع حدوث أزمات حقيقية داخله.