تدهورت العلاقات التركية السعودية التي ظلت باردة ومتوترة طوال القرن العشرين وتحسنت خلال النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين، بعد حركات الربيع العربي والثورات التي تلته حيث دعمت تركيا قوى التغيير بينما دعمت المملكة العربية السعودية القوى المؤيدة للوضع الراهن والمضادة للثورات. وتراجعت العلاقات الثنائية إلى أدنى مستوياتها بعد الانقلاب العسكري المصري عام 2013 بل أصبحت العلاقات عدائية بعد اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول.
وسعى التحالف الكبير الذي تم تشكيله لاحقاً باسم "تحالف العالم" بقيادة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، إلى إضفاء طابع الطرف الآخر على تركيا وتهميشها وعزلها في الشرق الأوسط، لكن تركيا قاومت محاولات العزل ونجحت في عكس مسار العملية في المنطقة وإيقاف التطورات المناهضة لها، من خلال دعم قطر وإنقاذها من الحصار الذي تقوده السعودية ومنع سيطرة الجنرال الانقلابي خليفة حفتر على طرابلس.
ومع بداية عملية التطبيع الأخيرة في المنطقة، قررت الكتلة المناهضة لتركيا بما في ذلك المملكة العربية السعودية، تطبيع العلاقات مع أنقرة أيضاً بعد اختفاء الأسباب الرئيسية لمعاداة تركيا وعزلها. وعمدت المملكة العربية السعودية أولاً إلى تطبيع علاقاتها مع قطر الحليف الإقليمي الرئيسي لتركيا بداية عام 2021، ودعا الملك سلمان ملك المملكة العربية السعودية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، لحضور القمة الخليجية التي عقدت في العلا في المملكة العربية السعودية، ما جعل أحد الأسباب الرئيسية لمناهضة تركيا يختفي.
كما غيرت الديناميكيات العالمية ميزان القوى الإقليمي حيث انهار "تحالف العالم" بعد أن خسر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، وأعلن الرئيس جو بايدن الذي انتقد بشدة كل من تركيا والمملكة العربية السعودية، أنه سيعطي الأولوية لتحسين العلاقات مع إيران، الأمر الذي من شأنه أن يمهد الطريق لمزيد من التوسع الإقليمي الإيراني، وهو ما جعل الرياض تتقارب أكثر مع أنقرة التي تمثل إلى جانب إسرائيل بالنسبة للسعودية، إحدى القوى الإقليمية الكبرى التي يمكنها موازنة التهديد الإيراني.
كذلك اختفت معظم حركات المعارضة والفاعلين السياسيين من المشهد السياسي مع عملية الثورة المضادة التي بدأت مع الانقلاب العسكري المصري، ولم تعد هناك حاجة لإضفاء طابع الطرف الآخر على تركيا.
والأهم من ذلك، أن أنقرة تغلبت على جميع الجهود المناهضة لها مع الزيادة المستمرة في تكلفة اتباع سياسة إقليمية معادية لتركيا، واضمحلال حوافز خصوم تركيا لمتابعة هذا الاتجاه، إضافةً لتعزيز أنقرة قوتها العسكرية وتحولها إلى لاعبٍ إقليمي رادع. علاوةً على أن نجاحها في صناعة الدفاع وإدارة مناطق الصراع مثل قره باغ وسوريا وليبيا أدى إلى زيادة الإنجذاب إليها من قبل جميع الدول.
وبعد تنظيم عدة اجتماعات على مستويات مختلفة، قام الرئيس رجب طيب أردوغان بزيارة رسمية إلى المملكة العربية السعودية يومي 28 و29 أبريل/نيسان 2022، وكانت هذه الزيارة الأولى من نوعها منذ عام 2017 عندما حضر أردوغان جنازة الملك الراحل عبد الله. وكانت زيارة أردوغان نقطة تحول في اتخاذ خطوات ملموسة في العلاقات الثنائية، كما أتاحت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لأنقرة في 28 يونيو/حزيران، فرصة عظيمة لإضفاء الطابع المؤسسي على العلاقات الثنائية.
ويمكن تقييم زيارة محمد بن سلمان التي جرت في وقت مفيد للبلدين والتي ستحقق تطلعات الجانبين، ضمن 3 سياقات متكاملة إذ ستعمل أنقرة والرياض باعتبارهما اقتصادين متكاملين، على تحسين علاقاتهما الاقتصادية، كما ستجذب الزيارة استثمارات تركية جديدة في قطاعات معينة خاصة تطوير البنية التحتية في المملكة العربية السعودية. وعلى سبيل المثال، يمكن للشركات التركية ذات الخبرة أن تقدم مساهمات كبيرة في مشروع مدينة نيوم، وهو مشروع البنية التحتية الضخم الذي قدمه محمد بن سلمان قبل عدة سنوات. كذلك ستساهم عودة أداء العمرة في الاقتصاد السعودي، حيث تحتل تركيا المرتبة الأولى من حيث عدد المعتمرين.
وكذلك برزت تركيا كواحدة من أكثر الشركاء موثوقية في صناعة الدفاع وكبديل للدول الغربية المصدرة للأسلحة، وقد تشتري المملكة العربية السعودية طائرات بدون طيار تركية في المستقبل القريب.
وبالمثل، ستحصل تركيا أيضاً على فوائد اقتصادية من الزيارة إذ ستكون قادرة على جذب الأصول المالية السعودية للاستثمار في السوق التركية. وسيتم بعد رفع العقوبات غير المعلنة عن تركيا، فتح السوق السعودية أمام المنتجات والخدمات التركية. وستستضيف تركيا سياحاً سعوديين في المستقبل القريب. ومن المؤكد أن الفوائد الاقتصادية ستخفف الضغط على اقتصاد تركيا المتعثر.
وستسرع زيارة محمد بن سلمان التي لها تداعيات إقليمية كبيرة، من عملية التطبيع الإقليمي، فبعد التطبيع مع قطر بدأت أنقرة والرياض في تبادل وجهات نظر مماثلة تجاه القضايا والأزمات الإقليمية الرئيسية مثل سوريا والعراق وإيران، إذ لا يمكن لتركيا والمملكة العربية السعودية بصفتهما لاعبين إقليميين رئيسيين، أن تتجاهلا بعضهما في الشرق الأوسط.كما حملت الزيارة ديناميات على المستوى العالمي حيث يريد كلا البلدين تقليل اعتماد كل منهما على القوى العالمية ويحتاجان إلى التعاون مع بعضهما ويسعيان إلى زيادة استقلاليتهما العالمية.
وبشكل عام، تغير مسار العلاقات الثنائية بين تركيا والمملكة العربية السعودية بشكل إيجابي، وأصبح كلا الجانبين مستعد ولديه حسن النية لتحسين العلاقات بشكل أكبر. وبذلك قدمت الدولتان مثالاً يحتذى به للعديد من الدول مثل اليونان وإيران.