بالنظر إلى موقع تركيا الجغرافي الاستراتيجي وقوتها العسكرية والسياسية، تحتاج الدول الغربية إلى حساب تكلفة عزل أنقرة.
منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي كانت تركيا واحدة من أقوى الحلفاء الإستراتيجيين للعالم الغربي، ومنذ ذلك الحين سعت البلاد في محاولة منها للاندماج مع العالم الغربي، إلى أن تصبح عضواً في جميع المنظمات الدولية الغربية ذات الصلة وخصوصاً حلف الناتو. وطوال الحرب الباردة لم يتغير هذا المنظور التركي ذي التوجه الغربي، وكانت الدول الغربية دائماً تقدر دور تركيا.
لكن مع انهيار الاتحاد السوفيتي، تغير منظور تركيا الغربي بشكل كبير. وبدأت الدول الغربية في تقويض الأهمية الاستراتيجية للبلاد، ما أدى إلى أزمة سياسية دفعت أنقرة للسعي في التغيير. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإرهابية على الرموز السياسية والاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة، عاد الغرب إلى تركيا للمساهمة في مكافحة الإرهاب الدولي. وأرسلت أنقرة قوات عسكرية لدعم المهام التي يقودها الناتو في أفغانستان ضمن قوة الأمن الدولية "إيساف" وبعثة الدعم الحازم "آر إس إم".
ومع انطلاق أحداث الربيع العربي تغيرت الديناميكيات الإقليمية، ما أدى إلى اختلافات بين الدول الغربية وتركيا. وبدأت السياسات والأهداف والتوقعات تتعارض. وكلما زاد تعارضها، زادت الدول الغربية من تحويل تركيا إلى دولة أخرى. وبعد أن تبين لأنقرة أن حلفاءها الغربيين غير مبالين بمخاوفها الأمنية، بدأت في اتخاذ الإجراءات اللازمة. كما راحت أيضاً، تزيد في الاستثمار في صناعة الدفاع وإنتاج أسلحة استراتيجية، ليس فقط لردع التهديدات الداخلية والخارجية الموجهة ضدها ولكن للارتقاء والصعود بهدف التحول لقوة قادرة على تغيير قواعد اللعبة في منطقتها من خلال تزويد الحكومات الصديقة بالأسلحة، كذلك لجأت تركيا إلى مصادر أخرى مثل روسيا لشراء أنظمة دفاعية لازمة للدفاع عن وحدة أراضيها. ومع استمرار انضمامها إلى حلف الناتو، بدأت تركيا في اتباع سياسة أكثر استقلالية.
وبعد اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية، عادت الدول الغربية بحكوماتها وآرائها العامة، تتذكر أن تركيا لا تزال عضواً مهماً في الناتو. وحظي اتفاق الأسلحة التركي مع أوكرانيا والاستخدام الفعال للطائرات التركية بدون طيار ضد الأهداف الروسية على وجه الخصوص، بتقدير كبير من قبل الرأي العام الغربي. ومع ذلك، فإن التغيرات في أوروبا الشرقية لم تتسبب في تغيير جذري في سوء الفهم الغربي لتركيا، ويرجع ذلك أساساً إلى سياساتهم المتناقضة بشأن قضايا معينة وسياساتهم المترددة بشأن قضايا أخرى.
ومع عدم وجود نهاية تلوح في الأفق للصراع واستمرار آلة الحرب الروسية في ضرب أوكرانيا، يستمر عدوان الحكومة الروسية في التصعيد، وكلما زادت روسيا من عدوانيتها زادت مخاوف الدول الغربية. ونتيجة لذلك، قررت دولتان قلقتان هما السويد وفنلندا، الانضمام إلى حلف الناتو. وبصفتهما أكثر الدول عداءً للاجتياح الروسي، حاولت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اتخاذ قرار سريع وجعل السويد وفنلندا أعضاء في الناتو، الأمر الذي يتطلب قراراً بالإجماع من قبل جميع الدول الأعضاء. وأعربت تركيا كعضو في الناتو، عن مخاوفها من عضوية هذين البلدين، لأنهما يدعمان المنظمات الإرهابية المناهضة لها. ووفقاً لذلك، صرح المسؤولون الأتراك أنه طالما استمرت الدولتان في دعم المنظمات الإرهابية المناهضة لتركيا، فلن تتردد تركيا في استخدام حق النقض ضد طلب العضوية.
وبدأت الحكومات والآراء العامة لجميع الدول الغربية تقريباً مناقشة معارضة تركيا لعضوية ستوكهولم وهلسنكي، بالرغم من أن المسؤولين الأتراك بمن فيهم الرئيس رجب طيب أردوغان، أعلنوا أن تركيا ليست ضد توسيع الناتو من حيث المبدأ. لكن الذين ينتقدون تركيا بسبب معارضتها الانضمام، يدعون أنها تضر بالتحالف.
وبعد الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء تناول أردوغان هذا الادعاء بالقول:"إن مقاربتنا لتوسيع الناتو لا تنبع من التعصب أو العداء، ولكن من موقفنا المبدئي في حربنا ضد الإرهاب. لقد أوضحنا لجميع محاورينا نهج تركيا تجاه توسع الناتو مع التركيز على مكافحة الإرهاب والأهمية التي نوليها للتحالف". داعياً الدول المرشحة وكافة أعضاء الناتو إلى عدم "السير مع المنظمات الإرهابية".
المخاوف الأمنية
ومع كل ما تحدث عنه المسؤولون الأتراك لا يزال الغرب يلقي باللوم على تركيا في اعتراضها على محاولة انضمام البلدين. فالدول الغربية تريد "تركيا مفيدة" بمعنى أن تساهم في أمن الغرب. لقد طلبوا من تركيا ردع ومنع أي تهديد موجه ضدهم، لكنهم بالمقابل لا يقدمون شيئاً، كما كانوا يفعلون طوال الحرب الباردة. وهم إلى الآن غير مبالين بمخاوف تركيا الأمنية. وعلى سبيل المثال، يزعمون أنهم يدعمون تنظيم ي ب ك/بي كا كا الإرهابي، بسبب دوره في الحرب ضد داعش الذي في واقع الأمر يمثل تهديداً أكبر لتركيا وليس للدول الغربية.
وبالرغم من أن تركيا استُهدفت من قبل منظمات إرهابية مختلفة بما في ذلك داعش، أكثر من أي دولة غربية، فإن الغرب يستخدم الحرب ضد الإرهاب كذريعة لسياساته المناهضة لتركيا. ولا تزال الدول الغربية غير مبالية بمخاوف تركيا الأمنية، وهذا بطبيعة الحال يتسبب في فقدان الثقة من الجانب التركي بأن الدول الغربية لا تريد تركيا قوية ومستقلة قادرة على مقاومة التهديدات الخارجية، بل تحاول إبقاء أنقرة معتمدة عليها وتابعةً لها.
وبالنظر إلى موقع تركيا الجغرافي الاستراتيجي وقوتها العسكرية والسياسية، يتعين على الغرب حساب التكلفة البديلة لعزل تركيا. فكلما طالت فترة عزل أنقرة سياسياً وعسكرياً، زاد احتمال أن يفقد حلف الناتو ملاءمته ليس فقط لتركيا ولكن للعديد من الدول الأوروبية أيضاً. وستشكك الدول الأوروبية القارية مثل فرنسا وألمانيا عاجلاً أم آجلاً، في السياسات المتشددة والصراع تجاه روسيا. فالمشكلات الاقتصادية والسياسية المتصاعدة، إلى جانب تصاعد التوتر والتنافس بين القوى العالمية سوف يقوض السياسات التعاونية المتعددة الأطراف. أي أنه كلما اتبعت الدول سياسة خارجية واقعية وأحادية، زاد تباعدها بشأن القضايا الإقليمية والعالمية.