ظلت الأزمة الأوكرانية على مدى العامين الماضيين، أجندةً رئيسية للسياسة الدولية. واحتلت الدولة الأوكرانية طاولة التنافس العالمي بين الغرب وروسيا طوال العقدين الماضيين. ولا يزال الخطاب السياسي الأوكراني مقسوماً على نفسه بين عالمين مختلفين ومتعارضين، الجهات المؤيدة للغرب والجهات المؤيدة لروسيا.
وكانت الثورة البرتقالية أول جبهة يفوز بها التحالف الموالي للغرب منذ أن مُنع فيكتور يانوكوفيتش من الوصول إلى السلطة كرئيس للبلاد، بالرغم من أن يانوكوفيتش عاد واستولى على السلطة عام 2010 وأصبح رئيساً لأوكرانيا. وخلال فترة رئاسته تبنى كما هو متوقع، سياسةً موالية لروسيا.
وعاد التحالف الموالي للغرب إلى الكفاح مجدداً وفاز بجولة ثانية في ثورة الميدان عام 2014، عندما أطاح بيانوكوفيتش. ورداً على ذلك، تدخلت روسيا في السياسة الداخلية لأوكرانيا، وضمت بشكل غير قانوني شبه جزيرة القرم ودعمت الانفصاليين الموالين لها وحرضتهم على إعلان الاستقلال عن أوكرانيا في منطقة دونباس. ولم يعترف الرأي العام العالمي ولا سيما الدول الغربية، بهذا الضم وبدأ بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب هذه الخطوة غير القانونية. وهكذا تم تدويل الأزمة.
وحاولت العديد من الدول الغربية تحت قيادة الولايات المتحدة، ردع روسيا. وبدأت في اتخاذ إجراءات أمنية وسياسية واقتصادية معينة ضد موسكو، لكن بعض الاختلافات الهامة بين الدول الغربية لا تزال موجودة وخصوصاً فيما يتعلق بالإجراءات ضد الاتحاد الروسي. وتستغل الولايات المتحدة تحالف الناتو وتتبع سياسة أمنية تجاه روسيا، إلا أن بعض البلدان مثل ألمانيا تنتهج سياسة معتدلة نسبياً ولا تريد عزل روسيا.
فما هو موقف تركيا من هذه القضية؟
إن موقف تركيا كدولة عضو في الناتو، مشابه للمجموعة المعتدلة. وتفضل تركيا التي تريد السلام والاستقرار في المنطقة، الاعتماد على الوسائل الدبلوماسية لتهدئة التوتر. فهي أولاً، تحتفظ بموقف محايد تجاه الأزمة الأوكرانية. وقد أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان ومسؤولون أتراك آخرون مراراً وتكراراً أن أنقرة مستعدة للوساطة بين أوكرانيا وروسيا. وبالرغم من أن تركيا ترفض علناً ضم شبه جزيرة القرم وتدعم السيادة السياسية ووحدة أراضي أوكرانيا، إلا أنها تعتزم لعب دور وسيط الخير بين الجانبين.
وثانياً، تفضل تركيا من أجل تجنب العنف واسع النطاق في المنطقة، استخدام خطاب سياسي ودبلوماسي سلمي لحل الأزمة. لذلك، يعتبر أردوغان أن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا هي العنوان الرئيسي لإصلاح المشكلة، وليس حلف الناتو. وبناءً عليه، أعلن أنه مستعد لاستضافة محادثات السلام و/أو اجتماع مينسك المقبل في إسطنبول أو في أية مدينة تركية أخرى.
فما هي المعايير التي حددت سياسة تركيا تجاه الأزمة الأوكرانية؟
هناك أربعة معايير حددت سياسة تركيا تجاه الأزمة الأوكرانية. المعيار الأول هو العلاقات الودية بين تركيا وأوكرانيا. فليس لدى أنقرة ولا كييف أية أجندة سلبية، وتبدو علاقات البلدين السياسية والأمنية والاقتصادية جيدة حقاً. فأوكرانيا هي واحدة من أكبر الشركاء التجاريين لتركيا، خصوصاً بعد أن تجاوز حجم التجارة الثنائية مؤخراً 7.4 مليار دولار. وفي العام الماضي زار أكثر من 2 مليون سائح أوكراني تركيا، كما باعت الأخيرة طائرات بدون طيار فعالة إلى أوكرانيا، ما زاد من قوتها الرادعة ضد أي تهديد خارجي. وكذلك بدأ البلدان مشروعاً مشتركاً لتطوير محركات لبعض الأسلحة الاستراتيجية، وهو موضوع بالغ الأهمية بالنسبة لتركيا.
أما المعيار الثاني فهو علاقات أنقرة مع روسيا. فتركيا تتبع سياسة قطاعية تجاه روسيا، تجعل علاقات البلدين لا سيما في قضايا معينة، مهمة للغاية في الوقت الذي تبتعد فيه معظم الدول الغربية عن تركيا. وبشكل عام، تتبع تركيا التي لديها علاقة صراع مع روسيا بشأن الأزمتين السورية والليبية، استراتيجية خروج من الأزمات والتوترات، وقد حسّنت علاقاتها مع روسيا من خلال عدة خطوات.
فمن جهة، وقعت تركيا وروسيا اتفاقية ستبني روسيا بموجبها مفاعلاً نووياً في تركيا. ومن جهةٍ أخرى، اشترت تركيا أنظمة الدفاع الجوي إس -400 من روسيا، عندما رفضت الدول الغربية بيع أنقرة نظاماً صاروخياً فعالاً، ما أثار رد فعل شرس من الولايات المتحدة.
وبالإضافة إلى ذلك، تعد روسيا واحدة من أكبر الشركاء الاقتصاديين لتركيا. ناهيك عن أن تركيا هي واحدة من المشترين الرئيسيين للغاز الطبيعي الروسي، وواحدة من الوجهات السياحية الرائدة للروس.
أما المعيار الثالث فهو حلف الناتو. ففي حال تدخل الناتو بشكل مباشر في الأزمة الأوكرانية، وهذا سيتم بطبيعة الحال إذا وافقت جميع الدول الأعضاء على ذلك، فإن على تركيا كدولة عضو، اتخاذ موقف ضد روسيا. وبالطبع سيكلف الانحياز إلى جانب على حساب آخر في هذه الأزمة ثمناً باهظاً ليس على تركيا فحسب بل وكذلك على العديد من أعضاء الناتو مثل ألمانيا. وبعبارة أخرى، في حين أن بعض أعضاء الناتو مثل بولندا ودول البلطيق، أكثر عرضةً للتهديد الروسي، فإن دولاً أخرى مثل ألمانيا وتركيا لديها علاقة متبادلة مع روسيا. وبينما تطلب المجموعة الأولى من الناتو اتخاذ إجراءات ضد روسيا، تفضل المجموعة الثانية إيجاد حل دبلوماسي.
والمعيار الرابع والأخير هو حالة تتار القرم، وهم السكان الأصليون الترك في شبه جزيرة القرم. ولا تريد تركيا بحال من الأحوال أن يتأذى تتار القرم الذين عانوا بالفعل من ضم أراضيهم من قبل روسيا، بسبب الصراع. ويعرف المسؤولون الأتراك جيداً أن تتار القرم سيكونون من أوائل الضحايا في حالة نشوب حرب بين الدولتين.
وختاماً وبالنظر للمعايير المذكورة أعلاه، اتبعت تركيا سياسة محايدة ولعبت دوراً وسيطاً في الأزمة الأوكرانية. وبما أن تركيا تتمتع بعلاقات وثيقة مع كل من أوكرانيا وروسيا، فهي لا تريد أن تتحول الأزمة إلى حرب إقليمية واسعة النطاق تضر بجميع دول المنطقة. لذلك، فإن المسؤولين الأتراك مصممون على مواصلة العمل من أجل حل سلمي للأزمة.